من الحنو والعطف. وهو يراها مرة أختًا يلتمس في مس يديها، وفي نبرات صوتها، تلك العاطفة الساكنة ذات الأفياء والظلال، عاطفة الأخت التي تضحي في سبيل أخيها المنكوب، ثم يرقى بها إحساسه فينظرها أخًا مخلصًا يشد أزره إذا انطبقت عليه قُحَمُ (١) العيش ومتالف الحياة. ثم إذا هي تارة أخرى روح من الأبوة المسددة، الحازمة المصممة البليغة، لا تزال تجد الرجل مهما أناف به العمر وشمخ ذلك الطفل العابس الغرير الطياش، وهي مع ذلك كله الصديق الذي يحامى عنه إذا تعادت عليه الدنيا بأسرها، الصديق الذي تبقى صداقته تطوف عليه تحرسه وترعاه. أتدري بعد إلى أين تنتهي به هذه الألوان المختلفة من إحساسه بها؟ لقد تنتهي في بعض ساعاته معها أن يراها أستاذه، فهو كأنما يجلس بين يديها ليأخذ عنها روائع الحكمة، ويسألها عن سر الأبدية المحجب بالغيب، ويلقى عندها كل أفكاره المعقدة في الحياة، يلتمس عند حكمتها الخالدة حل ما تَعَقَّد، وأن تمنح أفكاره ذلك الهدوء الفلسفي الذي تسبغه الحكمة العالية على سَدَنتها وحفاظها.
ثم سكن صاحبي وغشيته فترة الحديث إذا تطاول به وامتد ولكنه ما لبث أن أقبل عليّ يندفع:
انظر. . . انظر الآن كيف يضمحل الرجل. هذا هو في مد عواطفه وهي تفور وتتثوَّر بأمواجها في الحب العنيف المتلاطم، ثم إذا هي تطير عن أحلامه وتنفر من مجثمها السحرى، وإذا هو منفرد لا يدري كيف كان هذا؟ ولمَ؟ ومن أين؟ وإلى أين. . .؟
إنها ذهبت وتركت الدنيا التي أنشأتها له مشرقةً زاهيةً ناضرة، فإذا هي تطفأ وتخبو وتذبل. إن قوة رجولته قد ذهبت تطلبها عند قبور الذكرى، فكيف لا يضحملُّ الرجل؟ كيف لا يضمحلُّ؟ !