إن الزمنَ الذي يمشي في الأرض فَتَخضرُّ منها مواطئ أقدامه، هو نفسه الزمن الذي يدب عليها فيُسمع لدبيبه دمدمة مما يتقصف تحته من عمارة الدنيا وبنيان الحضارة، وعلى مواطئ الزمن تتنزل الحضارات كلها أو تتهَدم. ومن يوم أن تنهَّدَت الأرض بالحياة يبيدُ شيءٌ ويقومُ شيءٌ، وما يزول منها ما يزول إلا ليحل عليها ما يحل، لأن الحركة دليل الحياة، فلا يثبت معنى الحياة إلا بها، وما يتحرك من متحرك إلا لتكون لانتقاله نهاية إليها يتوجه، وعندها يقف، فإذا وقف فهذا آخر أنفاسه، ثم يسكن سكون الموت.
فما بنا على ذلك أن نتشاءم أو نتفاءل، وما التشاؤم والتفاؤل إلا حركة النفس الفارغة التي لا تجد عملها، فهي تعمل في إرهاق نفسها بما لا ينفعها ولا يعنيها، وليس من عمل الإنسان ما هو أضر عليه من إجهاد نفسه في باطل، والجهاد بها في غير طائل. فإذا أردنا اليوم أن ننظر فما ننظر إلا لنعرف الطريق التي يجب أن نقرر لجهودنا أن تمهدها لنا ولمن يأتي بعدنا على تدبير وسياسة.
والقدرُ اليومَ قد قضى بين الناس، ووضع القضية لمن يختار، فمن شاء أن يدخل في عقد هذا وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يتخلَّف فقد رضي لنفسه على مَيْزة وبصيرة، وما ينقض القدر قضاءه الذي أبرم، فيأتي من يأتي ينوحُ بما ظُلم، ويتوجَّع بما غُبنَ! !
ونحن قد لقينا من أحداث الدهر ما ردَّنا بعد عزٍّ إلى قرار هوان. وقد أنَى (١) لنا أن نرفع أنفسنا من وهدة واطئة قد ربضت بنا فيها سلاسل من حديد الذل، وقد حضرت ساعة ينبغي أن نفصل فيها بين عهد مضى وزمن يستقبل. فإذا قعدت عزائمنا، وعميت أبصارنا، فأنفسَنا نضيع، وأرواحَنا نزهق.
جاءت هذه الحرب لتنسف تاريخًا شامخًا ثقيلًا قد اضطجع على حياة الشرق كما يضطجع الجبل على سفحه الرَّحْب، فإذا تأخر الشرق وتهاون وتكاسل على ما عوَّده الموت الروحيُّ الذي كان فيه، فقد سنَحتْ له الفرصة ثم ولَّت عنه،