للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وتركتْ يدَه ممتدَّة لا تمسكُ إلا أذيالَ الريح التي استَرْوَحتْ عليه بأنفاس الصيد ورائحته.

إن في هذا الشرق لميراثًا نبيلًا من الأعمال والأخلاق والآداب والسياسات، ولكن هذا الميراثَ المضيَّع المنسي لا يجدى من خير على نائم قد أغمض عينيه عن الحياة، استمتاعًا بحياة أخرى تعرضها له أحلام رخية تختال في خياله. هذا الميراث المجهول في حاجة إلى من ينفض عنه غبار القدم، وأتربة الإهمال، ويزيل عنه أدران الجهل والخمول، ويجلوه مرة أخرى على أعين الناس مضيئًا مشرقًا يتوهج بأنواره كأحسن ما يتوهج.

لقد كانت الحضارة الأوربية الماضية، وقامت على روح من الأثرة والبغى والاستبداد، وفقدت كل معاني الروح السامية التي تبذل أكثر مِمّا تأخذ، وتعتد الغنى من الاستغناء لا من الجمع والتعديد، وتجعل حرية النفس في ضبطها وإمساكها على المصلحة لا في تسريحها وإرسالها على مد الشهوة. وقد كان للشرق مجد وحضارة ومدنية، وتمم الإسلام كل الكمال لهذه الحضارة بما أقام للناس من شعائره وآدابه، وجاء على الشرق زمان كان الإصلاح فيه ضربًا من إفساد الصالح، وزيادة الفاسد فسادًا وخبالًا، وكذلك ضاع كل شيء، ورجع بنا الزمن إلى جاهلية جهلاء، تقوم على التقليد لا على الإبداع، وعلى المتابعة لا على الاستقلال، وبالكبرياء لا بالتواضع، وحتى ذكرى مجدنا السالف قد صارت عندنا نخوة جاهلية في التعظم بالآباء والأجداد، لا عملًا عظيما تعظمه أعمال الآباء والأجداد والوراثة القومية النبيلة.

والحضارة ليست هي العرض الظاهر من قوتها وبنيانها وفنونها وكل ما يقوم به نعت الحضارة، بل الحضارة هي السر الذي يعمل في إيجاد ذلك واستنباته، وإخراجه على الأرض واستثماره: هي سر الحبة التي تنبت الدوحة، والذرَّة التي تقوم بها المادة. فكل حضارة لابد لها من روح تعيش بها وتنمو، وعلى ما في هذه الروح من النظام والتدبير والنبل والسمو، تنشأ الحضارة منظمة مدبرة سامية نبيلة. ونحن لا نشك في أن الروح التي ورثها الشرق في نواحيها، والتي طهَّرها