وكان كذئب السوء لما رأى دمًا ... بصاحبه يومًا أحال على الدم (١)
وقبيح بنا -نحن الشرقيين- أن نغمض أعيننا عن النظر إلى هذه المدنية التي أخذت تنهار تحت قصف المدافع وهد القنابل وزلازل الحرب، وأن ننام عن مستقبل أيامنا، وألا ننفض هذه المدنية نفضًا لنأخذ منها وندع، ولنعرف سوء ما تركت أنيابها في جسم أوطاننا، ونتبين حقيقة النفوس المسمومة التي أصبحت في الشرق فاشية تعمل على إدماجه في حضارة غريبة عنه، ولا يطيقها إلا على نكد ولا يحتملها إلا عنتًا وإرهاقًا وغرورًا.
إن رؤوسًا من الناس في هذا الشرق قد طالت بهم أيامهم حين أقبلت عليهم الدنيا، فأخذوا على الرأي العام منافذه كلها، وصرفوه ما شاءوا بما شاءوا كما شاءوا، لم يغلب عليهم إلا ذلك الداء الوبيل الذي قبسوه من مدنية الغرب، داء المنفعة. طلبوا المنافع لأنفسهم فاستبدوا في غير ورع، وتجبروا في غير تقوى، وعملوا على أن يكون سلطانهم في الأرض كسلطان الله في السماء: يمحو ما يشاء ويثبت، علوًّا في الأرض واستكبارًا، قاتَلهم الله أنَّى يؤفكون؟
إن الشرق لا يؤتى ولا يغلب إلّا من قبل أهله. هذه هي القاعدة الأولى في السياسة الاستعمارية الماضية، فعملت هذه السياسة على أن تنشر في الشرق عقولًا قد انسلخت من شرقيتها وانقلبت خلقًا آخر، وقلوبًا انبتَّتْ من علائقها ولصقت بعلائق أخر، وبهذه العقول المرتدة والقلوب المرتكسة استطاع الاستعمار أن يمد للشرق طريقا محفوفًا بالكذب والضلال والفسوق، يختدعه عن الصراط السوي الذي يفضى به إلى ينبوع القوة الذي يتطهر به من شرور الماضي
(١) هكذا رواه أستاذنا -رحمه الله-، والرواية المعروفة "وكُنْتَ كذئب"، والبيت للفرزدق، ديوانه: ٧٤٩، وهو مرويّ هكذا أيضا في طبقات ابن سلام ١: ٣٦٢، الأغاني ٢١: ٣٠٦ (طبع الهيئة)، وستأتي هذه الرواية في مقال "لا تدابروا أيها الرجال"، ص: ٣٦٠. وأحال على الشيء: أقبل، والذئب إذا رأى الدم على أخيه أقبل عليه يفترسه، ويترك عدوهما.