كأن أيَّامه تطوفُ به ثاكلاتٍ نائحاتٍ، يغض طرفه كأنما يُمسك عبرةً همَّتْ هاربة من الأسر، يطأطئ هامته كأنما يقول للزمن: تَخَطَّ، فلم يبق بيني وبينك عَملٌ أيها الجبَّار، يستكين حتى لإخالُه يجمعُ أطرافَ نفسه لا يزاحمُ أفراحَ الناس بما يريدُ أن يتنفَّسَ من أحزانِه.
لك الله يا ابن أبي عتيق! لقد كانتْ لك كالجدول النَّامي النمير: هو سرُّ الأرض، وسرُّ العود، وسرُّ الزَّهر، وسرُّ العطر؛ فلما جَفَّتْ عنك همدت أرضُك، وظمئ عودُك، وصوَّحَ (١) زَهرُك، وتهاربَ عطرُك. . . زوجةٌ كانت تستودع روحك مع كل شارق، ما تتملَّى به أفراحك ولهوك ودُعابتك، فتخرج إلى أحبابك لتحمل عنهم همومهم فتغرقها في ذلك البحر الخِضَمِّ من الفرح والابتسام والرضى!
* * *
ودخل ابن أبي عتيقٍ فسلَّم سلام الذاهل المتوَلِّه، ثم جلس كأنما هو يلقى عبئًا ثقيلًا كان يمشي به، ثم نَظَر في عينيَّ بعينين نديَّتين ترى في غَوْرهما ذلك التنُّور المتضرِّم يتقاذفُ شُعَلَه في ثنايا النفس وفي مسارب العاطفة. وأدامَ النَّظر لا يرفعه عني كأنما يقول: انظر واعرفْ ولكن لا تتكلَّم! فأشهد أني افتقدتُ ما أقولُ أعزِّيه به أو أُرفِّه عنه، بل كأنما أفرغَ بعينيه في عينيَّ من أحزانه، حتى أراني أجد مسَّ النار في صدري وهي تستعر.
ولكني خفتُ على صاحبي ورفيقي إن أنا سكت له، أن أكون قد خلَّيت بينه وبين همِّه، وإن أحدنا لو قَعَد يمارسُ أحزانه يومًا بعد يوم لصرعتْه. أجلْ! وإن الحزن ليهجُم على النفس كالسَّبُع الضاري، حتى إذا عَبَر إليها وقف يستأنس متلفِّتًا يريد ما يختلج أو يتحرَّك، فما هو إلا أن يُهوِي إليه فيبطش به، أو ينشِب فيه براثنه ينفُضه ثم يقضقضُه حتى يهمَد، وإذا خُلِّي السبع لا يُذَاد ولا يُطْرد يبقى حتى يتأبّد ويستوحش. ولا يزال على عادته يستمرئ كل ساعة فريسته يغمس في دمها أو يَلِغُ، ثم لا يكفُّ حتى تكفَّ الحياة عما ينبض أو يتنفَّس.