للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأخذْت أزوِّر له الأحاديث في نفسي. فلما هممت بها لم أقل إلا ما يقول الناس: عزاءك يا أبا محمد! فوالله كأنما هِجْت بها الطير الجثوم، وظل وجه ابن أبي عتيق يروح الدم فيه ويغدو، وجعلت عيناه ترسلان على نظراتهما الدمعَ الذي لا يسفح، والعَتْب (١) الذي لا يتكلم، وظلّ صامتًا، وراحت نفسي تنخزل عما أقدمت عليه، ولكنه لم يلبث أن زَفَر إليّ زفرةً خلت في نفثاتها شررًا يتطاير. ثم قعد يتململ حتى قال:

إن أيامي -يا أبا الخطاب- قد استحالت تيهًا أمشي فيه على مثل هذه الجَمَرات، ولقد كنت مما عَهِدتُني، والأيام من حولي عُرسٌ لا أعدم فيها ما أُطربُ له. كنت إذا ما حَزِن بعض أيامي، أجد من أفراح الماضي ما أهرب إليه بالذكرى، وأتوهَّم من نشوة الآتي ما أترامي إليه بالأمل، فكنت أعيش بفرحةٍ أحضرُها أو تحضرُني، لا أخاف ولا أجزع ولا أتوهم في الحياة إلا الخير. فأنا وقد أبتْ بغتات القدَر إلا أن تنتزع من كَفَّىَّ ما كنت أضنّ عليه، فهيهات لها بعد اليوم أن تطيقَ انتزاعَه من فكري. آهِ. . . آهِ يا عمر! كانت مِلْء عيني وروحي وقلبي. كنت أعيش تحت نسيمها كالنشوان ذاهلًا عن الألم مهما أمضَّ، مستصغرًا للكبير وإن فَدَح، راضيًا باسمًا متحفِّفًا (٢). . . إذ كانتْ هي هي الأمانيُّ تتجدَّد مع أيامى عليّ وتتبلّج مع كل فجر في قلبي، ما كنت جزوعًا ولقد جزعت! كيف قلت: عزاءً يا أبا محمد! ها الله يا ابن أبي ربيعة.

كيف صَبري عن بعض نفسي! وهل يَصبِرُ عن بعض نفسه الإنسان؟

كانت بيني وبين الدنيا، وكانت آية الرفق والفرح، فكنت أرى الدنيا بعينيها مشرقة من تحت غياهب الأحداث، فالآن إذ نامت عني، كيف أرى إلا قِطعًا من الليل تغتالني من كل وجه، أو أشلاءً من الدياجى تجثم لي بكل سبيل؟

ثم رأيت في عينيه الملَل وهو يطوى على نظراته ما نَشَرتْهُ الحياة من همة


(١) العَتْب: الغَضَب.
(٢) متحفف: لم أجد هذا البناء في المعاجم، ولعل أستاذنا نحته من حَفّ، بمعنى مَرَّ، يعني يمشي على رِسْله مهتزا طرِبا.