للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النفس؛ وتخيلته -حتى كدت أتبينه- شبحًا ينساب في ظُلمة الليل فردًا قد انخلع من الحياة وأسبابها، فهو يضربُ في حَشا الظلماء بسآمةٍ لا تهتدي ولا تريد أن تهتدي، وقد كدت مما شجيتُ له أن أدع إليه الحديث حتى يَستَتِمَّه، ولكني أعرف في قلبه الرقَّةَ، فخشيتُ أن يَمضِي به الحزن على غُلَوائه، فقلت له:

مَهْ مَهْ يا أبا محمد، والله ما أنكرتك منذ عرفتك، ولكني اليوم منكر لك أو كالمنكر؟ أليس لك في إيمانك وإيمان آبائك معتصم أيها الشيخ؟ ما إسلامُك النفس للجزع وما غلوُّك فيه؟ إن امرأ يؤمن بالله واليوم الآخر لخليق أن يستكين إلى قضاء الله استكانة الوليد إلى أمه. وإن أمرًا يختاره الله لامرئ هو أهدى سبيليه لا رَيب، شَقِى بذلك أم سَعِد، وما يمسك النفس على أحزانها للأمر من قدر الله إلا الشيطان. خبرني يا أبا محمد! هل ابتُلىَ الناس فيما ابتُلوا به بما هو أفظع من فجيعتهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كلا! فقد حزن الناس حتى أخذتهم آخذة، وحتى أنكر أحلمهم حلمه، وحتى إن بعضهم ليوسوس، فقام إليهم جدُّك الصديق فرد الناسَ إلى أحلامهم، وهو أشدهم حزنا على صاحبه ورفيقه؛ فعلَّم الناس أن الحزن للقلب وحده، وأن العقل والجوارح إنما هي للعمل، وأن هذا هو طريق الإيمان بالله وبقضائه: خيره وشره، أفأنت من يَجور عن سنة الله وسنة المهتدين من آبائه يا أبا محمد؟ كنتَ المرءَ الصالحَ الذي يرى الدنيا بعيني زائلٍ، فما بالك اليوم تراها بِعَيْني متشبث قد أنشب فيها أمثال البراثن من عقله وفكره، فهو يتأبَّى أن يدور في وهمه أنه مفارقها؟

قال ابن أبي عتيق:

حنانيك يا عمر! فوالله ما تعلمني يا ابن أبي ربيعة إلا ما علمت. لقد عَجمتْ (١) مني الحوادث صخرة مُلملمة لا تضرع. كم سخرت من الدنيا وأحداثها، فجعلْت أطويها في دُعابتي طَىَّ المُلاءة! كنت أتخفَّفُ منها بنشوة


(١) عجمتني: اختبرتني فوجدتني صلبا، وأصله من عَجَم العود، إذا عَضَّه لينظر أَصُلْبٌ هو أم رِخْو، ثم استعاروه للشدائد.