للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أُحْدثها في قلبي، فلو كان عليه مثل الجبل من الهمِّ لطار فيها كما تطير خافية (١) من جناح، ولكني اليوم. . . آه! لقلَّ ما جرَّبتَ يا عمر! أسلمتُ لله مُقْبِل أمري ومُدْبرهُ يصرِّفه كيف شاء. ولكني أجدُ هذا القلب المُعَنَّى لا يزال يخفق بالذكرى، أفأنت منكرٌ عليّ يا عمر أن أذكرها نسيمًا رَفْرَفَ بين الجوانح والقلب؟ أنَّى لي أن أَلوِي النفس عن آثارها، وما أكاد أرى شيئًا إلا خلته يحدثني حديث الثاكِل: أنينٌ وحنين؟ فأين المهرب؟ دع عنك يا أبا الخطاب! أَأَراكَ تَلْحاني (٢) على الجَزَع، وما على ظهرِها أشقى ممن يُصبح ليفتقد في نهاره حُلمًا ضَلَّ عنه مع الفجر؟ كم خلوت إلى هذه النفس ألومُها كالذي تلوم؟ وكم وقفت على هذا القلب أذكره ما يذكرُ الناس مني، فإذا الذي كان بالأمس قد أصبح وكأنه أديمٌ مرقوم قد تَفَرَّى (٣) عاثَ فيه البلى فمحاه. أريد، ويا لضلَّتى فيما أريد! أنا كالساري في لُجَّة الليل يلطم في سوادها، قد أضاع لؤلؤة يَبحثُ عنها بين الحصى والرمال! . . . لن أعودَ إلى الناس حتى أجد لؤلؤتي يا أبا الخطاب. . . لن أعود.

ورأيتُ الرجل ينتفض انتفاضة المحموم من هول ما يجد، فَرَحِمْته، ولكني آثرت أن أدور على بُنَيَّاته، عسى أن يَأْوِى لهن (٤) فيؤوب إلي كبعض ما كان، قلت: ظلمتَ نفسَك يا ابن أخي فظلمت من لا يلوذ إلا بظلك صغيراتٌ ضعيفات ضائعات: فمن لهن بعدك؟ لو كنتَ وشأنك لهان الأمر، ولكنك استُحْفِظتَ من لا يحفظه بعد الله إلا رحمتك، ومن لا يغذوه بعد الطعام إلا حديثك، ومن لا يضئ له وجه الدنيا بعد النهار إلا ابتسامك، ومن إذا أهمل ضاع عليك ضيعة الأبد. إنهن بناتُك منها وبناتُها منك، فوالله ما تذكرها ذِكرًا في شيء هو أكرم وأحب وأرضى عندها منهن، أجْمِلْ يا أبا محمد، أجْمِل! فرفع إليَّ رأسه ونظر، ثم ربا صدره بالزفرات وهو يقول:


(١) الخافية: الريشة تكون في مؤخر جناح الطائر، وهي لينة ضعيفة.
(٢) لحاه: لامه وعذله.
(٣) مرقوم: مُزَيَن مُوَشَّى. تَفَرَّى: تَشَقَّق وتقطَّع.
(٤) أوى له: رقَّ له ورحمه.