للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لقد كنت أخشى لو تمليتِ خشيتي! ... عليكِ الليالي كرَّها وانفتالَها

فأما وقد أصبحتِ في قبضةِ الرَّدَى ... فشأن المنايا، فلتُصِب من بَدَا لها

. . . لولا علمتَ يا عمر! كيف -بربك- كنتَ تراني أحبوهنَّ من قلبي خفقات لامعات باسمات؟ كنتُ لو أطقتُ أن أجعل قلبي بينهن لهوًا يَتَلَعَّبنَ به لفعلت! فانظر إليك ماذا ترى؟ ما شيء أجتلب به على قلبي ألمًا كنوافذ الإبر إلا رؤية هؤلاء الصغيرات الضعيفات الضائعات، وإن إحداهن لتعدو إليَّ تستأوى فأحملها، فكأن قد والله حملتُ بها صخرة مسرفة (١) يُعيى حملها، لولا بقية من رحمةٍ -يا عمر- لنفرتُ عنهن نفرةً واحدة لا أراهن ولا يرينني.

أفزعني والله الرجل، ولكني فهمت عنه ما يأتي به. إنه لا يزال يراها بعينيه تحول بينه وبين صغاره. إنه يريدها ويريدهن جملة واحدة، فإذ ذهبت هي، فكأنما ذهب منهن الذي كان يراه فيهن. يرحمك الله يا ابن أبي عتيق! فأما إذ بلغ به حبها هذا المبلغ من اليأس، فلا والله ما ينجيه إلا أن يُحْتال، فقلت له: أأراك أُنسيت ذكر ربك يا أبا محمد! أتُرانا نعيش في هذه الأرض إلا بما نرجوه عند الله في غيب الله؟ فلولا ما نمثله في أنفسنا من الرجاء، ما نبض لامرئ عرق مما يأخذُه من السَّأم. وأنت، أفيغبى (٢) على امرئ في مثل عقلك أن يجعل من مفقودٍ يحبه رجاءً يستمسك به؟ انظرها يا ابن أبي عتيق بين عينيك، ولا تدع البَدن الراحل يَغلبُك على ما يحضرُك من روحها. إنك بعينيها ما عشت، فلا تحسبنَّ أحزانك التي تبتغى أن تتسلَّب بها في حياتك، تجعلها تنظر إليك راضية مطمئنة.

لا تشكَّنَّ يا ابن أخي، فوالله إن الجسد ليذهب إلى البلى، وإن الرُّوح


(١) كذا في الأصول. وظني أن الصواب بالشين المعجمة، أي ضخمة.
(٢) غَبِيَ الشيءَ وغبِيَ عنه: لم يفطن له.