للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد ولَّى الحارث بعض الولايات، فلما جاءه النبأ بولاية الحارث قال: أرسل عوفًا وقَعَد! ولا حُرّ بوادي عَوفٍ (١). فابتدر من المجلس يحيى بن الحكم وقال: ومن الحارث يا أمير المؤمنين؟ ابن السوداء! فقال له عبد الملك: خسئتَ، فوالله ما ولدتْ أمةٌ خيرًا مما ولدت أمه!

ثم صرف الحارث وجهه إلى ابن أبي عتيق وهو يبتسم له وقال: أما زلت يا ابن أبي عتيق بحيث قال صاحبك فيما بلغنى من شعره إذ يقول لك؟

لا تلمني عتيقُ حسبي الذي بي ... إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني

إنَّ بي داخلًا من الحب قد أبْـ ... لَى عظامي مكنونه وبراني

لا تلمني وأنت زيَّنتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان

فقال ابن أبي عتيق: هُديت الخير، فوالله إن أخاك لشاعر يقذف بباطله، ولقد وقعت في لسانه ولقيت من دواهيه. ثم نظر إليَّ الحارث وقال: أما وقد لقيتك بخير يا عمر، فإني منصرف إلى وجهي، وبالله إلا ما تقدمت إلى أهل بيتك أن يعدوا لي المنزل الذي نزلته بالأمس حتى أعود، وإني أرى الريحان قد ذبل فَمُرْهم أن يستبدلوا به، وأن يطيِّبوا الفراش ويجمروه، وقل لطائف الليل أن لا يلم بنا؛ فلسنا عن حاجته ولا هو من حاجتنا. فما تمالكت أن قلت له: ويحك! أفهو أنت؟ قال: أجل هو أنا أيها الفاسق! قلت: إِذن فوالله لا تمسك النار أبدًا وقد ألقت نفسها عليك وقبَّلَتك. فقام مغضبًا يفور وقال: اعزُبْ، عليك وعليها لعنة الله!

وانطلق الحارث واستفقت من غشيَة الحُمَّى وما نزل بي عن الغم لما فاتني من الثريَّا. وقال ابن أبي عتيق: قد والله أسأت فما تراني كنت أحدثك من جوف الليل أنهاك أن تجزع لبغتة إن جاءتك، فوالله لشد ما جزعت وخانتك نفسك وأرداك لسانك! ولبئسما استقبلت به أخاك! ولقد كنت أقول لك إن التردد


(١) لا حُرَّ بوادي عوف: مَثَلٌ، يضرب لكل مَن ناوأ مَن هو أشد منه قوة وأعز سلطانا فخضع وذلّ.