للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غِمار هذا الخَلْق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروي أرضا صالحة تنبت نباتًا طيبًا. . . . سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقِّها لأنه منها: يشعر بما كانت تَشْعُر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الَّذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصِم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حُب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة. إنه الرجل الَّذي خُلِطت طينتُه التي خُلِق منها بالحرية، فأبَتْ كل ذَرَّةٍ في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض. فهو يُشْرِق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس ترمي بأشعتها هنا وهنا. ولا يملك الناس إلا أن يَنْصِبُوا لها وجوهَهم وأبدانهم ليَذْهَب عنهم هذا البَرْدُ الشديد الَّذي شَلَّهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتَسْرِي نَفْسُه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغتْ قوَّته وجبروته" (١). ثم يختم المقال مؤكدًا أن هذا الرجل آت لا محالة، فقد بلغ السيل الزُّبَى، وتأصل الفساد واستشرى، واستشعر الناس أن شيئًا سوف يقع ما له من محيص، وأنه مُواتٍ قريب، "ألا إن هذا الشرق لينتظر صابرًا -كعادته- هذا الرجل. وإني لأحسُّ أن كل شرقي يتلفَّت لا من حَيْرة وضلال، بل توقُّعًا لشيء سوف يأتي قد أَتَى زمانه" (٢). "فأنا إن كتبتُ، فإنما أكتب لأتعجَّل قيام هذا الرجل من غِمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صَفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل" (٣).

وبعد أربع (٤) سنوات من كتابة هذا المقال خرج جمال عبد الناصر من غمار


(١) المصدر السابق ١: ٥٥٦.
(٢) نفس المصدر ١: ٥٥٨.
(٣) نفس المصدر ١: ٥٥٩.
(٤) خلال هذه السنوات لم يكتب الأستاذ مقالات سياسية في مجلة الرسالة، وليس معنى ذلك أنَّه توقف عن كتابة المقال السياسي، فقد نشر ست مقالات سياسية في "اللواء الجديد" بين عدد ٧ أغسطس ١٩٥١، وعدد ٢٥ سبتمبر من نفس السنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>