للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ونحن منذ كانت سنة ١٩١٩ أخذنا نجهل كيف يعامَلُ هؤلاء الناس، فإن ذلك الخَطَل الذي ضَرَب على آذاننا وأبصارنا وقلوبنا، والذي يسمونه "المفاوضة" قد جرَفنا في عُباب مُتلاطم من الحيرة والضلال، فما نكاد نبصر ولا نعي ولا نعقل شيئًا من حقيقة هذا الشعب الإنجليزي أو ساسته الذين يتصرفون في أمور الدنيا كأنهم وارثوها وأصحابها الذين تلقَّوا مقاليدها من يَدِ الله القدير العزيز. وكنت أظنُّ أن التجارب قد حنَّكت رجالنا فعرفوا مواعيد هؤلاء القوم، وأدركوا كيف تكون مواثيقهم منذ علا أمرهم في الأرض، وكيف كان تاريخ معاهداتهم منذ كان لهم شأن في هذه الدنيا يكتبون من أجله المعاهدات. بيد أن ذلك لم يكن، لأن رجالنا يستضعفون أنفسهم، ويظنون أن هذا الشعب لا يمكن أن يظفر بحقه إلا بمداورة الإنجليز والترفق في معاملتهم، حتى ينالوا من أيديهم ما تيسَّر! وهذا عجبٌ! بل هو غفلةٌ، بل هو كدْح أحمقُ في سبيل لا شيء. فقل لي بربك كيف يستطيع إنجليزي أن ينزل لنا عن شيء هو يريدُ أن يؤمن بأنه حقٌّ له، وإن كان حقًّا موروثًا متحدّرًا مع أصل البشرية كلها، وهو الاستقلال والحرية! . . . .

خلق الله في دوابّ الأرض دابة يسميها العرب اليَرْبُوع تكثر في بلادهم، وهي نوعٌ من الفأر قصير اليدين جدًّا، وله ذنب كذنب الجُرَذ يرفعه صُعُدًا، وفي طرفه شبه النّوَارة ولهذا اليربوع أسلوب فردٌ في حياطة نفسه وأموره، حتى إنه يتخذ لعشيرته رئيسًا يقف حارسًا على جِحرَة اليرابيع يحميها، فإذا قَصَّر في الحراسة، وهجم على اليرابيع من جراء غفلته وإهماله هاجمٌ أفزعها أو أضرَّ بها، انقلبت على ذلك الرئيس فقتلتْه وأقامت غيره مقامه. ويتخذ كل يربوع منها جِحرَةً يلوذ بها، ويجعلها سبعةً لها سبعة أبواب. فيبدأ أول ما يبدأ بالجحر الذي يسمونه "الرَّاهطَاء" فيغطيه بالتراب حتى لا يبقى منه إلا على قدْر ما يدخل الضوء منه إلى جحره هذا، ثم يحتفر جحرًا يسمونه "الحَاثِيَاء" يحثو عنده التراب برجليه ليخفي مدخله ثم يحتفر آخر يسمُّونه "الدَّامَّاءُ" لأنه يُدَمِّمه بتراب نَبيثَته (١) حتى لا يَنْفذَ


(١) النبيث: التراب الذي يستخرجه من الحَفْر.