منه عدُوّ، ثم ينشيء جحرًا آخر يقالُ له "العانقاءُ" يملؤه ترابًا، فإذا فجأه ما يخاف اندَسَّ فيه إلى عنقه. ثم يَحْفر "القاصِعاء" وهو جحرٌ يسدُّه سدًّا محكمًا لئلا يدخل عليه منه حيّة أو دابة. ثم يحفر "النافقاءَ" ويجعل على فَمه غشاءً رقيقًا، فإذا أُخِذ عليه بقاصعائِه عدَا إلى هذه النافقاء فضربها برأسه ونفق منها ومرق خارجًا. ثم يجعل سابع سبعةٍ جحرًا يقال له "اللُّغز" يجعله بين القاصعاءِ والنافقاءِ، يحفره مستقيما إلى أسفل، ثم يعدلُ به عن يمينه وشماله عُرُوضًا تعترض، يُغَمِّيه ليخفي مكانه بذلك الإلغاز، فإذا طلَبه طالب بعصًا أو سواها نَفَق من الجانب الآخر.
أفرأيت إلى كل هذه الحيطة وكل هذا التدبير! فإن تعجبْ فإنك واجد في الخُلُق الإنجليزي أكثر من هذا مداورةً وتَفَلُّتا وإلغازًا ومراوغه. والإنجليز أنفسهم يعلمون أنهم كذلك وأنهم يخفون في سرائرهم ما لو اطَّلعْت عليه لاستصغرت من احتيال هذه الدابة ما استكبرت. ومن أراد أن يدخل على الإنجليز جحرَتهم وقع في مَتاهة لا يدري معها من أين ولا إلى أين. فمن العجيب الذي لا ينقضي عجبه أن يظن رجالٌ من رجالنا أن في طوقهم أن يراوغوا الإنجليز فيستولوا على جحراتهم المحتقرة في طبائعهم وأخلاقهم وعقولهم.
إن معنى المفاوضة والمعاهدة بيننا وبينهم هي أن يسعى الإنجليز جهدهم حتى تطمئن إليهم، فإذا فعلت أخذوا بيدك وقادوك إلى مثل جحرة اليربوع، فيدخلون بك من واحدٍ إلى ثان إلى ثالث، حتى إذا خُيل إليك أنك قد تمكنت منهم "نفقوا" من نافقائهم بأسهل مما كنت تتصوَّر. وهكذا شهدنا وعرفنا وخبرنا منذ احتلّوا بلادنا في سنة ١٨٨٢، فوعدوا الدنيا كلها -لا نحن وحَسْب- بالجلاء الناجز، ولكنه ظلَّ وعدًا إلى هذا اليوم.
وجاءونا اليوم يعدوننا أيضًا أن يَجْلوا عنا بعد عام أو عامين أو ثلاثة -أيُّ ذلك كان. فمن الذي يصدق هذه اليرابيع! ومن شفيعهم وضمينهم في كل هذا؟ أهو الخطُّ المكتوب، أم اللفظ المنطوق، أم سوابق العهود المؤكدة والمواثيق الغليظة! ! إنها لغفلةٌ أن يرى امرؤ نفسه أقدرَ على خديعة هذه اليرابيع من قدرتها هي على خديعته. وليس يعلم شيئًا من ظن أن الإنجليز ينفضون أيديهم من شيء