للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

هو كائن في أيديهم. الإنجليز يرابيعُ بالطبع والممارسة، حتى إن "النفَاق" الذي علمته في أخلاق اليرابيع، قد صار أيضًا خُلُقا من أخلاقهم يشهدون هُم به على أنفسهم، ويشهدُ عليهم به تاريخهم منذ كان لهم التاريخ. وهذا النفاق المطبوع هو الذي جعلهم أقدر شعوب الأرض في كل شئون السياسة. وما مواعيدهم، ولا معسول ألفاظهم، ولا روعة دعوتهم إلى الحرية، ولا كمال إخلاصهم في تحرير الجنس البشري من غوائل النازية، ولا صبْرهم على المكاره في سبيل المثل الأعلى للإنسانية -كل ذلك ليس ببعيد عنا في زمن الحرب الماضية. لقد نطقوا بكل شيء، ولكنهم لم يحققوا شيئا مما نطقوا، فكيف نرضى لأنفسنا أن نؤمن بأنهم فاعلون معنا شيئًا لم يردهم خجل ولا حياء عن نكث مثله وإخلافه، بل أكبر من ذلك أنهم فعلوا نقيضه ودافعوا عن فعله بمثل القوة والبلاغة التي كانوا يزيّنون بها لأمم الأرض أن تُعينهم في أيام محنتهم وبلواهم!

ومن عجائب الإنجليز أنهم يعلمون علمًا ليس بالظن أنهم معتدون متغطرسون ظالمون، يأكلون الحقوق أكلا لا يرعون فيه حرمة ولا ذمة. ومع ذلك فهم من طول ممارستهم للنفاق قد انتهوا إلى أن أقنعوا أنفسهم بأن هذا الاعتداءَ وهذه الغطرسة وهذا الظلم ليس له وجود حقيقيّ، بل العكس هو الصحيح، وهو أنهم وحدهم دون سائر العالمين أهل العدل والنَّصَفة والتواضع، وأنهم هم الذين جاءوا إلى الدنيا ليردوا الحقوق إلى أهلها، وأنهم هم القُوَّام على هذه الرسالة السامية. ولذلك ترى كلام رجالاتهم كلامًا نَيرًا مضيئًا فاتنًا ساحرًا إذا عرضوا لمعنى الحرية وما أطافَ بها، ويُخيل إليك أن إيمانهم بهذه المثل العليا إيمان لا يعتوره نقصٌ. وهذا حق، ولكنهم إذا جاءوا إلى تنفيذ ما يقولون رأيتهم أهل بغْى وعُدْوان فيما ترى ويرى الناس، ولكنهم هم يصرّون على أن هذا هو الحق الذي لا محيصَ لك ولا للناس عن الأخذ به، تقول: وإن كان بغيًا وعدوانًا، فأقول: وإن كان بغيًا وعدوانًا!

والإنجليزي يرى أن هذه الأمانة التي حُمِّلها هي الأمانة، وأنه مؤدِّيها على وجهها، فإن أنت خالفته وزعمتَ له أنه يجورُ عليك جورًا عبقريًّا قال لك: إنك