ولكن يأبى الله أن يكونَ لهذا الكيد كله قرارٌ، فهذه الفئة التي ظنَّت أنها سوف تخدعُ إنجلترا عن نياتها الملفَّقة في الألفاظ الكاذبة، قد جاءَها البرهان الساطِعُ القاطِعُ، بأن هذه الدولة "المفاوضة" تضع الألفاظَ على قدرِ ما تريدُ، لا على قدر ما يريدُ مفاوضُها أن يفهم فإذا خيَّلتْ له نفسُه أنه فاهمٌ من النصٍّ ليقول لها ويبين عن فحوى ألفاظها أرسلت عليه شيئًا يردّه إلى صوابه. فبالأمس كان المفاوض المصريّ يزعم لمصر أنه جاءها "بوحدة وادي النيل"، وأن النصّ المتعلق بالسودانِ كان خيرًا كلّه، وأنّ وأنّ. . . فما أصبح الصباحُ حتى طلع عليه شيءٌ من أشياء بريطانيا يقول له: جاوزتَ حَدَّكَ فاستبقِ، وإن بريطانيا لا ترضى هذا التفسير المصنوع من جانب واحد، وأن السودان وديعة في اليد البريطانية، والودائع مستردَّة، والخيانة فيها تفريطٌ لا يليق بالشرف البريطاني! فنحنُ في السودان أمناءُ عليه، ولن ندعَه لمصر العادية الباغية تفعل فيه ما تشاءُ كأنه جزءٌ مِنها! ! بل لابُدّ لنا من أن نبقى هناك حرَّاسًا حتى يبلغ السودان رشده بعد السنين التي يقتضيها بلوغه الرُّشْد! وعندئذ يكون للسودان أن يختار بعد أن يكون قد تهيأ لحكم نفسه بنفسه.
هذه هي السياسة الصريحة المتكشفة، وهذه هي بريطانيا على حقيقتها، وهذه هي ألفاظها المكتوبة مفسرة في تصريح حاكم السودان. فليت شِعْري ما الذي يظنُّه امرؤ في نَفْسه ذَرةٌ من الإيمان بحقّ الإنسان في الحرّية، ما الذي يظنه كائنًا بعد ذلك في تفسير نصوص المعاهدة التي يُرادُ لنا أن نرتبط بها مع هذه الإمبراطورية؟ ومهما تكنْ نصوصُ المعاهدة، ومهما يُقَلْ في تسويغها أو تقريظها، وسواءٌ أكانتْ هذه المعاهدة المعروضة اليوم أم غيرُها، فهل يحِلُّ لمصريٍّ أوعربيٍّ أن يأْمَنَ على بلادهِ بعد هذه الخَديعة التي لا تعرفُ وَرَعًا ولا حياءً؟ !
وليس هذا فحسب، لقد قال حاكم السودان ما شاء، فماذا كان جواب الحكومة المصرية على هذا التصريح العجيب!
كان الجواب أن ينشر رئيس الوزراء كلمة يحتج فيها على تصرف حاكم