ونحن لا نقول هذا ولا نسوق الحجة على هذا الوجه لندعى -كما يُراد لنا اليومَ أن ندَّعى- إنَّ لمِصْر حقًّا في استعمار السودان أو احتلاله أو الوصاية عليه أو غير ذلك من الأباطيل المضللة، بل لنقول إنَّ هذا وحده يوجبُ عقلًا أن يكون وادي النيل كلُّه دولةً واحدة، لها حكومةٌ واحدة، وتشريع واحدٌ، ونظامٌ نيابي واحدٌ، شأنُ السودان فيها كشأن أَسْوَان، وقنا وجرجا ومديريات مصر كلها، فإن موقع أية مديرية من هذه المديريات كلها هو من الناحية الجغرافية كموقع السودان؛ فلو جاز أن يُفصل السودان اليوم عن مِصر بحجة، فهذه الحجة تنطبق كل الانطباق على أسوان ثم قنا ثم جرجا إلى أن تبتلع النيل كله. وأيضًا فإن مكان السودان كمكانها من الناحية التاريخية والأدبية والأخلاقية والدينية. وإذن فالنيل يحدث بلسانٍ لا يكذبُ بأنه لا يمكن أن يتجزَّأ إلا أذا جاز التجزؤ على هذه المديريات حتى تُصبح كل واحدة دولة قائمة برأسها. والشعب الذي يسكن أسفل الوادي (المعروف باسم مصر)، والشعب الآخر الذي يسكنُ أعلاه (المعروف باسم السودان)، شعبٌ واحدٌ ناطقٌ بلسان عربيّ مبين لا يعرف نفاق اللسان الإنجليزي ولا تكاذُبه وخداعَه، بأنه أيضًا لا يستطيع أن يتجزأ، ولا هو قابل للتجزّؤ.
ولقد استزلَّ الشيطانُ بعض ساستنا؛ فأخذوا يقولون إنَّ مِصر لا تريد أن تستعمر السودان، بل تريد أن تمنحه الاستقلال الذاتي! فحِلًّا حلًّا (١) أيها الرجال، فإن هذا ما يريده الإنجليز، إنهم يريدون أن تقرُّوا بألسنتكم ما الحق شاهدٌ على بُطْلانه، وهو أن الشعب المصريّ شيء، والشعب السوداني شئٌ آخر، ويريدون أن تقولوا إن النيل ممكن أن يتجزَّأ، ولو بعضَ التجزّؤ، فإن هذا حسبهم منكم اعترافًا وتقريرًا. فتوبوا أيها الساسة من هذا الإثم، ولا يُرهبكم حقٌّ تقرير المصير، ولا مجلس الأمن، ولا هيئة الأمم المتحدة، فإن هذه الرهبة باطِلٌ كلُّها. توبوا أيها السَّاسة، ولا تخافوا من أكذوبة الدانوب، فهو النهر الوحيد