للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فسطاطه فإذا فيه سيف مُعلَّقٌ على جانب منه، فلما سلَّمتُ رد التحية وقال: مرحبًا بك يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قلت: زائرٌ إلى مدينة رسول الله يا أبتاه. فدعاني أن أجلس، فوالله لقد أخذتني للرجل هيبَةٌ ما وجدتها لأحد ممن لقيت من صحابة رسول الله، ولا من أمراءِ المسلمين، وكانت عيناهُ تَبِصَّان في سُدْفَة (١) الفسطاط كأنهما قِنْديلان يلوحانِ في ظلامٍ بعيدٍ. وجعلتُ أنظر يمينًا وشمالا فلا ألبث أن أثبت نظري على سيفه المعلق، فلما رأي العجَب في عينيّ قال: لعلك تقول، لقد كسر سيفه، وهذا السيفُ معلق بحيث أرى! ثم قام واستنزل السيف واخترطه (٢) فإذا هو سيفٌ من خشب.

ثم قال: لقد فعلت ما أمرني به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - واتخذتُ هذا أُرْهبُ به الناس.

* * *

(قال عمرُ بعد حديث طويلٍ): قلت له: يا أبتاه والله لقد آنستني وأدنيتني وأطلقت لساني فلو سألتك! قال: سل ما بدا لك يا ابن أخي. قلت: لقد حدَّثتني عن قتلك كعب بن الأشرف اليهودي، وعن قتل يهودَ أخاك محمودًا - رضي الله عنه -، فهلا حدثتني عن إجلائك يهودَ عن جزيرة العرب في زمان عُمَر؟ فقال:

رحم الله الرجل، فقد كان شديدًا في الحق حافظًا للعهد، ولكن يهودَ قومٌ غُدُرٌ، أساءُوا الجوار وخانوا العهد وتآمروا على المسلمين، فعزمَ عمرُ على أن يجليهم عن أرض العرب ليقطعَ غدرهم ويحسم مادة النفاق في هذه البقعة المباركة. فأرسَلَ إليّ وقال "لقد عهد إليك رسول الله مراتٍ أن تجلى يهود، فأنا أتبع سنته وأعهد إليك أن تجلى لي يهود عن أرض العرب، فلا تظلمهم ولا تؤذِهم، ولكن لا تدعْ منهم صغيرًا ولا كبيرًا ولا طفلا ولا امرأة حتى تستوثق من جلائهم بجموعهم عن أرضنا. ولئن عشت لأجْلِيَنَّهم عن كل مكان كبَّر فيه


(١) تبصان: تلمعان. السدفة: الظُّلْمة.
(٢) اخترط السيف: استلّه من غمده.