للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

في عقل عاقلٍ أن تدع أباها الذي يمدها بكل هذه القوة ينخزلُ عنها وينفصل ليقع في يد الدولة المستعمرة المعروفة في الناس باسم بريطانيا؟ إن مصر هي السودان، ولا مصر بلا سودان، وإذا كانت إنجلترا نفسها تدّعي أن الهند لازمة لها، وقناة السويس لازمة لها، وكذلك روسيا فيما تدّعيه، وكذلك أمريكا في دعوى مصالحها في الأرض والبحر والجوّ، فكيف يجوز في عقل عاقل أن يُراد لدولة ترجو أن تكون دولة في هذه الدنيا العريضة المتراحبة -وهي ليست إلا خطًّا محرومًا حظَّ الحياة وأسباب البقاء- بانفصال السودان المفضل المتكرِّم عليها بأسباب القوة التي تمكنها من أن تكون دولة؟

إن واجبنا اليوم هو أن نموت في سبيل السودان، لأن السودان هو حياتنا، ونحن بضْعَةٌ منه، فدفاعنا عنه وموتنا في سبيله هو دفاع الولد البارّ عن أبيه، والذي لا حياة له ولا عزّ ولا مجد إلا بحياته وعزه ومجده. نحن لا نريد سيادة على السودان بهذا المعنى العاميّ الجلْف، فإن السودان هو سيّد هذا الوادي، ولكننا نريد أن تبقى مصر حيَّة قوية في كنف السودان أبينا ومادة حياتنا. إننا لن نفرِّط ساعة في السودان لأن الدولة المصرية ليست شيئًا، ولن تكون شيئًا في هذا الوجود إلا بالسودان. ولو أنصف القَدَرُ وأنصف الناس، لكان ينبغي أن تسمى "الدولة المصرية" الدولة السودانية. أما بريطانيا فهي تريد السودان، لأنها تدرك هذا كله حق الإدراك وتعلم أنها إذا بقيت في السودان، تحكمتْ في حياة مصر كلها، وزادت عليه ما في السودان من كنوز لا تزال مطمورة تحت تاريخ الحياة الإنسانية المتقادمة منذ أبعد الآباد. فليحذر السودان ولتحذر مصر، فإن مصر هي القوة الحقيقية لأهل السودان، والسودان هو الحياة الحقيقية لمصر. فإذا انفصل أحدهما عن الآخر ماتا كلاهما بين أنياب الوحش الذي لا تشبع نهمته ولا تسكن ضراوته.