فإن الوطن يأمركم بهذا فأطيعوه ولا تطيعوا داعي الشهوات وكراسي الحكم ومقاعد البرلمان فكلها عرض زائل، وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وهي هي التي تتقدم إلى مجلس الأمن بقضيتها، لا فلان هذا ولا فلان ذاك؛ فالكلمة الآن لمصر التي أنتم أبناؤها، لا لأحدٍ منكم على حياله. فأجمعوا أمركم، ولا تحملنكم الكبرياء على تزييف القول إرضاءً لشهوات أنفسكم، فإنكم إن فعلتم كدْتم لبلادكم وأوطانكم وشرقكم كيدًا لا يكيده عدوّ حقود ولا شامت باغٍ لكم أهوال المصائب. وماذا تريد بريطانيا إلا اختلاف الكلمة وتفرّق الوحدة؟ ألم تدركوا بعد ماذا كان يريد كهفُ (١) بريطانيا بيفن حين زعم أنَّه لم يعرف أنَّه أخطأ إلا يوم عزمت مصر والسودان على رفع قضيتها إلى مجلس الأمن، فإنه زعم أنَّه أخطأ إذ أدار المفاوضات بينه وبين حكومة أقلية! ! ويا سبحان الله! إنه لم يُرد من تلك الأكثرية التي يعرّض بها إلا أن تكون خصومة ولدَدًا على حكومة الأقلية، وأن يستثير دفائن الأحقاد ويفت من عضد الأمة التي سوف ترغمه وترغم بريطانيا على احترام إرادتها وحقها. فإن لم يكن في الاتحاد والتناصر إلا قتل هذه الكلمة وما ترمي إليه، حتَّى يحمل الرجل حسرتها إلى الأبد- لكان ذلك واجبًا مفروضًا وخيرًا مرغوبًا فيه. وكيف جاز في العقول -أعني عقول بعض الساسة- أن الأمر أمر حكومة أقلية أو أكثرية! ! لا أدري، ولكنه كان.
ومع كل ذلك، فالأمر كله تدليسٌ سخيف، ففي البلاد المنكوبة المهضومة الحقوق، لا رأي لأكثرية ولا أقلية بل الرأي للشعوب وللبلاد، أي للشعب من حيث هو تاريخ ماضٍ وتاريخ حاضر وتاريخ مستقبل، فحكومة الأكثرية لو هي خانت الأمانة وفرطت في حقوق البلاد ومهرت ووقعت وأسلمت المقاليد وعقدت المعاهدات وأقرها البرلمان وأجاز كل ما جاء فيها من تفريط -فذلك كله باطل، لأن الحق ههنا حق طبيعي متوارث في البشرية كلها، لا يغيّر رأي الأكثرية شيئًا من حقيقته وجوهره، ولا تمتلك الدولة القائمة في أرض البلاد المحتلة أو المهتضمة أن تنزل عن هذا الحق لأحد، فنزولها عنه عملٌ باطل من أصله.
(١) يقال: فلان كهفُ بني فلان: أي ملاذهم ووَزَرُهم.