بمعاهدة ١٩٣٦، والذين استطاعوا أن يصبُّوا في آذان الشعب من الكلام الفاتن حتَّى احتفل بها احتفاله المذكور على أنها "معاهدة الشرف والاستقلال"! ! ومن ذلك أن ترى شعبًا قد أُوذى وامتُهِن وحقر على يدِ فئة من طُغاة العسكريين فإذا هو يحمل ممثل هذا الشعب بعدَ قليل على الأعناق! ونحنُ لا نذكر هذا رغبةً في ذكره، ولكن الذين توسَّطوا ينبغي لهم أن يعرفوا هذه الفظائع التي أورثتنا إياها مبادئ المفاوضة وما يتبعُها.
ومن العجب أيضًا أن سورية ولبنان تعلم حقّ العلم، وتعلم بالتجربة التي جربتها مع الفرنسيين، أن المفاوضة لا تجدى، وأنها لم تنلْ حقَّها إلا حين كانت يدًا واحدة تطالب بحقها المغصوب، فلم تقبل معاهدة ولا شروطًا ولا وعودًا تعد بها فرنسا، وأصرَّت على ذلك إصرارَ الكِرامِ القادرين، فإذا فرنسا تجلو بجيوشها جميعًا عن كل بقعةٍ من بقاعها، وكل مكتب من مكاتبها. فالذين يعرفون هذا في أنفسِهم، إذا هم أتوا خلافه أو أرادوا غيرهم على إتيان خلافه، إنما يزيدون العجبَ عجبًا ولا ريبَ.
أما العجبُ فهو أن هذه الدول التي بذلت وساطتها نسيتْ موقف بريطانيا في مسألة السودان كل النسيان، وغفلت عن السرِّ الَّذي دفع بها إلى إيثار التشدّد على المساهلة، والصراحة على المواربة. وذلك أنها لا تريدُ أن تفصِل السودان عن مصر مُكايدة لها أو انتقامًا منها، بل لأنها لا تريدُ الجلاءَ عن مصر كلَّ الجلاء، وهي تعلم أن السودان هو مصر، فبقاؤها فيه هو بقاؤها في مصر سواءً بسواء. ولكن بريطانيا لا تريدُ أن تفضح نفسَها بالإصرار على البقاءِ في أرض مصر، فاخترعت قصة الدفاع عن مصير السودان واستقلاله أو تهيئته للحكم الذاتي وأنه لابُدَّ لذلك من أن تبقى فيه حتَّى يتهيأ ويستعدَّ، وأن تمنع مصر الباغية من العدوان على السودان! ! وهذا كله تدْليسٌ بيّنٌ، وكنا نرجو أن يعرف المتوسِّطون حقيقة هذه المسألة على وجهها فيكفُّوا عن الوساطة التي تعودُ بنا إلى المفاوضة -أي إلى تعذيب الشعب المصريّ السودانيّ سنين أُخَر، وإلى بقاءِ العالم كله جاهلا بعدالة قضية مصر والسودان على وجهها الصحيح.