نعم هذا الجلاءُ، ولكن هل يقنع هذا الشعب به؟ وهل يزيلُه الفرحُ بما تمَّ عن الهدَفِ الَّذي رَقى إليه؟ إن بريطانيا قد عَلِمَتْ أن لا قِبَل لها بإبقاء جنودها مفرقةً في مُدُن مصر فتكون قَذى في العيون يحدث آلامًا تنبه النفوس يومًا بعد يوم إلى عُدْوانها وبغيها، فآثرتْ أن تحمل جنودها وتجمعهم في مكانٍ بعيد عن عيون الشعب، تريدُ أن تجعل مثل هذا العبث مِنَّةً يحملها الشعبُ المصري، فيكفَّ عن مطالبتها وعن كشف عيوبها وسيئاتها وخَبَثها. فلما رأت أن هذا الشعب العجيب قد فرح بجلائها عن بعض أرضه، ولكنه لم يكف عن مطالبتها، ولا عن إماطة اللثامِ عن رذائلها، قامت صُحُفها تزعم أن الصحف المصرية قد شنّت على بريطانيا "حملة سِبَاب" في نفس المكان الَّذي أشارت فيه إلى مسألة الجلاء إشارة عابرة. وهذا دليلٌ على أن موقف الشعب قد غاظها غيظًا شديدًا وأنها كانت تؤمل أن تخدعنا بهذا الجلاءِ من أماكن في أرض مصر إلى مكان واحد حصين في أرض مصر أيضًا، فلما كان غير الَّذي أرادت زعمت أنها "حملة سباب".
ومن الَّذي يسبُّ؟ أمصر المسكينة التي احتملت وقاحة جيوشها وقوّادها منذ سنة ١٨٨٢، وصفاقة رجالها الذين جاءوا ليحكموا هذا الشعب بالقوة والبطش من أمثال كرومر وكتشنر واللنبى ولويد ومايلز لامبسن؟ أهي مصر المسكينة التي تسب اليوم بريطانيا وقد سمعت سفاهة الصحافة البريطانية على شعبها وهو يوصف بالرعاع، وسباب الصحف البريطانية للطلبة المصريين الذين كانوا يخرجون من مدارسهم للجهاد في سبيل وطنهم وبلادهم.
إن مِصر حين تصف أعمال بريطانيا بالسفاهة والوقاحةِ والصفاقة -لا تسب بل تقرر حقائق وتسميها بأسمائها التي خلقت لها، ولم تخرج في ذلك عما وصفها الرجال المحايدون الذين وقفوا ينظرون إلى أعمال بريطانيا في مصر والسودان. فالشعب المصري لا يسب بريطانيا وإنما تسبُها أفعالها وأفعالُ رِجالها. وإذا أرادت بريطانيا أن لا تسمعَ المسبّة من الشعب المصري ومن سواه في أقطار الأرضِ، فلتقلع عن سياستها التي توجب لها هذه الصفات، والتي تدفع