ويمنون علينا أنهم هم الذين رفعوا مستوى معيشتنا، وهم الذين علمونا كيف نلبس وكيف نأكل وكيف نشرب.
فهل يحل منذ اليوم لعربي أن يصدق أكاذيب هذه الأمم الباغية في دعواها ومزاعمها؟ هل يحل لعربي أن يثق بأن أهل هذه الحضارة التي اشتملت على روائع الفن والعلم والفلسفة، قد صاروا حقًّا أهل حضارة تستحق أن تسمى حضارة لأنها قربت المسافات بالطائرة التي تخطف في جو السماء خطفًا، ومست موات الأرض فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وألقت السحر في بنان الإنسان فإذا هو طبيب يدفع عوادي الموت عن رجل في النزع ليس بينه وبين الموت حجاب؟ هل يحل لعربي أن يصدق شيئًا من هذا كله وهم يكذبون على خلق الله العرب ويغررون بهم ويخدعونهم ويقتلونهم ويذبحونهم بلا رحمة ولا شفقة ولا ضمير يفزع من كل هذه الجرائم البشعة في تاريخ الإنسانية!
تعس العلم وتعس الفن وتعست الفلسفة، وتعست هذه الحضارة البربرية، إذا كان هذا خلقها وهذا ضميرها! وما نفع العلم والفن والفلسفة إذا هي خلطت لنا نحن العرب بالكذب والوحشية حتَّى في الأعمال التي يصفونها بأنها علمية خالصة (١). إننا على ضعفنا وجهلنا وفقرنا أكرم نفوسًا، وأعلى أخلاقًا، وأنبل قلوبًا من أهل هذه الحضارة البربرية التي لا يثور أهلها إلا لحاجة في نفوسهم، والذين لا يفزعون مما ترتكب أيديهم من الوحشية في بلادهم وفي بلاد غيرهم من البشر.
ليعلم أهل هذه الحضارة في أوربة وأمريكا، وينبغي أن نعلمهم نحن في بلادهم وبين ظهرانينا أننا لن نهاب بعد اليوم أن نكاشفهم بعداوة عربية، لا كعداوتهم هم. تلك العداوة الممزوجة بالرقة والخداع والكذب والتغرير، إنها عداوة طالب الحق الَّذي ينتصف لعدوه من نفسه، وينتصف لنفسه من عدوه، والذي لا يغمط حقًّا ولا ينكر معروفًا، ولكنه لا ينسى أن عدوَّه هو عدوه!
(١) يحسن بالقارئ أن يقرأ مقالة في مجلة الكاتب المصري شهر إبريل سنة ١٩٤٧ بعنوان "بين السياسة والعلم" للدكتور سليمان حزين، فهي تكشف عن استخدام العلم أحيانًا في أحط الأساليب السياسية (شاكر).