في مسألة مصر والسودان ومسألة فلسطين وفي سائر المسائل الشائكة التي يعاني العرب منها ما يعانون؛ وكذلك شأن فرنسا في مسألة بلاد تونس ومراكش والجزائر، فلم يبق إلا أمريكا، وهي التي يدور حديث رجال الصحافة ورجال السياسة في وجوب الدعاية لقضايانا في أرجائها.
فلننظر إذن إلى جدوى هذه الدعاية علينا هناك، وفي إمكانها قبل جدواها، وفي حقيقتها قبل جدواها وإمكانها.
فأمريكا لم تزل تزعم منذ الحرب الماضية أنها نصير العدل والحق، وأنها عدو البغي والعدوان، وأنها صديق الأمم المستضعفة، وأنها تبغض أشد البغض كل الاستعمار، أي أنها الحكم العدل الَّذي لا يرى بغيًا ولا عدوانًا ولا مظلمة إلا نبض قلبه إشفاقًا، وتحركت دماؤه اشمئزازًا وأنفة، وأبى إلا أن يكون كما أراده الله أن يكون حكما عدلا لا يرده عن إقرار الحق والعدل جهد يبذله، ولا دم يريقه، ولا مال ينفقه في سبيل الحق والعدل والحرية.
وهي لا تزال تحقق ذلك -فيما ترى بكل ما آتاها الله من قوة وحيلة ومعرفة، فهي تتدسس إلى قلب روسيا لتكشف الغطاء عن هذا الوحش الباغي المستقر بين جنبيها، والذي يخشى أن يكون أشد بغيًا وعدوانا من الفريق الأول الهالك "ألمانيا". وهي تتسلل إلى خفايا السياسات في أرجاء أوربة لتظهر العالم على أساليب روسيا في العمل لإدخال كل أوربة في حوزتها وتحت سلطانها، وهي ترسل جيوشًا لا تحصى من الخبراء والمخبرين ليستطلعوا طلع الحقائق التي تسترها روسيا في كل حنية من حنايا هذه الأرض، وهي تؤوي إليها كل شريد أو طريد ناله عسف الروس وبطشهم وتفسح له صدرها، وتفسح له الصحف أيضًا حتَّى يقول للناس ماذا تحاول روسيا أن تخبأ عن الناس، وكيف تفعل روسيا بالناس، إلى آخر هذا كله.
بل أعظم من ذلك أنها لم تتردد لحظة واحدة في أن تبذل -كل البذل لتركيا واليونان حتَّى يتاح لهما أن يصدا عن نفسهما بلاء الروس وبطشهم واضطهادهم، وأن تكونا جبهة مزودة بالقوة التي تعينهما على الجرأة فلا يروعهما تهديد الروس