للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قلوب مليون نسمة من العرب وأربعمئة مليون من المسلمين، وجزاك الله عما قدمت للعرب أكرم جزاء وأوفاه.

كُنْتُ يومئذ في العقد الثاني من عمري شابًا ينبض بين جنبيه قلب يتلفت إلى مجد آبائه ويحن إلى تاريخهم حنينًا طويلا كأنه لوعة ثكلى على وحيدها، وكانت مصر كلها لا تزال ترسل الصرخة إثر الصرخة طالبة أن تنال في الحياة حريتها التي استلبها البغاة الطغاة شياطين الأرض، وكانت الدماء في أبداننا تريد أن تطفي ظمأ الأرض المصرية بما يجرى على ظهرها من دماء الشهداء حتَّى تمحوا عار الاحتلال عن هذه الأرض المطهرة، ولكن زعماءنا أبوا إلا السلم وطمعوا أن ننال حقنا بالمفاوضة، أي بخديعة الغاصب حتَّى ينخدع لنا فيترك لنا ما سلب.

ثم أصبحنا يومًا فإذا بنا نسمع عن "أسد الريف" الَّذي هب من غابه ونفض نواحيه وزمجر واجتمع للوثبة، وإذا هو يضرب يمينًا وشمالا لا يدع للأسبان متنفسًا حتَّى اضطرهم إلى أقبح مواطن الذل تحت قدميه، وأوردهم شرائع العار شَلًّا (١) وطردًا حتَّى سجدت له تلك الجباه المتغطرسة في حمأة من الضراعة والذل.

كانوا يريدون أن يسوموا أهل مراكش أن يسجدوا لهم في مثلها، فأبيت إلا أن تعرفهم أقدارهم تحت هاتين القدمين الطاهرتين النبيلتين، فأتم لك الله النصر عليهم كما شاء.

ثم أراد الله أن يعرفنا ويعرفك أن أنذل من النذل ناصره على نذالته، فهبت إليك تلك الدولة الأخرى المعروفة باسم فرنسا، وهي يومئذ ثانية أمم الأرض فألبت عليك جيوشها وجحافلها "وبيتانها" (٢)؛ وفزعوا إلى نصرة الأسبان المهزومين، وظلوا يستجيشون عليك، أنت الضعيف الفرد، كل ما آتاهم الله من بسطة في العلم وقوة في البأس، حتَّى غلبوك على أمرك، ثم خدعوك، ثم غدروا بك، ثم نفوك على عادتهم من فساد الطوية وحقارة الفعل. فأصبح كل عربي


(١) الشَّلّ: السَّوْق العنيف الشديد.
(٢) بيتان: مرشال فرنسي مشهور، كان قائد جيوش فرنسا، ثم استسلم لجيوش المحور، وكوَّن حكومة فيشي.