للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

على ظهر الأرض يحس أنَّه الأسير المنفي المغدور به، وانطوت قلوبنا على بغض لا ينام لهذه الأمم التي لا شرف لها ولا ذمة ولا عهد.

ثم تقضت الأعوام وشارفتُ الأربعين، وإذا أنت حر طليق في أرضي وبلادي، فما كدت أسمع ذلك حتَّى انطوت أيامى وعدت كما كنت في نحو العشرين، شابًّا يحس دماءه تغلي لهذا النبأ كأنني انطلقت من الأسْر وخرجت من المنفي لأعيش حرًّا طليقًا كما تعيش أنت اليوم في مصر. ومصر هي أم المروءات، فإن ساء ذلك فرنسا أمَّ الغدر والخيانة، فإننا لن نفارق أخلاقنا وأخلاق آبائنا لكي نعينها على آثامها ومساوئها، بل سنرد عليها بغيها مهما لقينا في ذلك من سوء أخلاقها وقبح فعالها.

ونحن لا نعلم علمًا يقينا ماذا فعلت بك هذه الأمة الحريصة على ابتذال عرضها بين الأمم، أيام كنت في مَنْفاها، ولكن كفانا طول الاستقصاء أن نعلم أنها حرمت على تلك الألسنة العربية الصغيرة في أبنائك أن تعرف منطق آبائها وأسلافها، فقد اضطرتها بجبروتها وقسوتها أن تتجافي عن الكلمة العربية التي تمثل للعربي أمجاد أمته في ألفاظ من نور هذه اللغة الشريفة. وسيقولون إنك أنت الَّذي أردت لأبنائك أن ينشأوا على ذلك اللسان الفرنسي، ولكن كذبوا فما من عربي يطيق أن يدع أبناءه الأحرار في أسر لغة أخرى غير اللغة الحرة التي عاش عليها آباؤهم وأجدادهم. ولست أشك في أنهم قد اتخذوا لذلك كل وسيلة حتَّى لم يدعوا لك حيلة تدفع بها عن قلبك حسرة الأب العربي وهو يرى أبناءه ينشأون غرباء عن لسان أمهاتهم اللائى أرضعنهم بدَرّ عربي حر آبٍ للضيم طالب للعزة والشرف والنبل.

وقد أراد الله غير ما أرادوا، فها أنت اليوم بين أهلك وعشيرتك من أهل مصر، وهؤلاء أبناؤك هم أهلنا وإخوتنا، وهذه مصر بلادهم لهم فيها ما لنا، فعن قليل يهدم اللسان العربي ذلك اللسان الفرنسي، ويرتد العربي عربيًّا كما أراد الله له أن يكون، كما ردك الله حرًّا كما أراد لك أن تكون. وأما فرنسا فقد رد الله غيظها في صدرها حتَّى يأكل منها ما بقي مما تستطيل به على الناس.

لا تأس أيها الرجل على ما فات، فإن في الَّذي لقيه الناس من بعدك لعزاء لك