للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ونحن نحب أن نثنى ثناء خالصًا من قلوبنا على الرجل المصري السوداني، الذي لم يزعزعه تهديد بريطانيا وترويعها، ولم ينل من قلبه الخوف، ولم تثنه عن الهدف الأعظم حِيَل ولا أشراك ولا جدال ولا تغرير، فانطلق يبين عن أهداف مصر والسودان وعن حقوقها وعن البلاء الذي نزل بها بيانًا شفى صدور المصريين والسودانيين جميعًا. إننى لم أعجب بهذا الرجل لأنه سياسي بارع، ولا لأنه قانوني ضليع، ولا لأنه خطيب مفوّه، ولا لأنه رئيس حكومة -كلا بل لأنه أول رجل بعد أن ذهب مصطفى كامل- وقف وحده في عرين الأسد البريطاني ليسمع الدنيا كلها أن هذا الأسد البريطاني قد اعتدى عليه وبغي وطغى وظلم وتجبر، وفعل الأفاعيل الخسيسة التي أراد بها استعباد مصر والسودان. إنه الرجل المسئول الوحيد الذي قام في مجلس دولى يطعن بريطانيا العظمى طعنا متداركا غير راحم ولا مشفق ولا هياب، وهو يعلم أنه يطعن بهذا الطعن دولا كثيرة من أعضاء هذا المجلس. لقد كان محمود فهمي النقراشى رجل مصر، لأنه كان وطنيًا يتكلم بلسان الجروح التي مزقت جسد أمته، لا بلسان السياسي المحتال الذي يريد أن يرضى هذا ويتجنب غضب ذاك. وهذا وحده هو السّرّ الأعظم الذي جعل قضية مصر والسودان أعظم قضية عُرِضَت على مجلس الأمن وأخطرها، وهذا وحده هو الذي أوقع التخاذل في الصفوف التي جمعتها بريطانيا، وظنت أنها سوف تنصرها في باطلها نصرًا مبينًا ترجع بعده مصر والسودان خاشعة خاضعة تحت ظلال الخذلان الذي أمّلت بريطانيا أننا سوف نمنى به.

لقد ضرب النقراشي مثلا خالدًا في تاريخ مصر الحديث فدل بذلك على أنه رجل يركن إليه في ملمّات الأحداث. مرت على مصر والسودان حقبة كان الذي يقول فيها بمثل قالة النقراشى في مجلس الأمن يُعد رجلا مخبولا خياليًّا تسخر منه الصحف والمجالات، وتزدريه جماهير من المخدوعين، ويتخذ هدفًا لكل دعابة تجري بها ألسنة الهازلين من أحلاس (١) النوادي والقهوات. إن هذا الرجل جدير


(١) الأحلاس: الملازمون. جمع حِلْس، وأصل الحِلْس: كل شيء وَلِيَ ظهر البعير والدابة تحت الرَّحْل والقَتَب والسرج، ومن ثم قيل للمقاتل الذي لا يبرح الحرب، والفارس الذي يلزم ظهر الفرس: حِلْس، فيقال: هم أحلاس الخيل.