ومصر والسودان لن ترتد مرة أخرى إلى طريق "المفاوضة بين مصر وبريطانيا" ولن ترتد إلى تعليق مسألة السودان وجعلها مسألة قائمة على حيالها، ولن ترتد إلى الاعتراف بالورقة الباطلة التي كتبت في سنة ١٨٩٩ لتشرك بريطانيا مصر في حكم السودان. فإذا كان صدقي باشا قد علم من الثقة الذي أوعز إليه أن هذه الخطة هي الباقية، وأنها هي التي سنصير إليها بعد انهزامنا في مجلس الأمن، وأنه لا محيص لمصر والسودان من المفاوضة قبل الجلاء عن وادي النيل كله -فقد كذب الذي أوعز إليه بذلك. وليعلم صدقي باشا أن الرائد لا يكذب أهله (١)، وأننا نحن أصدق حديثًا من الذين يعتمد هو على حديثهم، فمصر والسودان قد علمت اليوم علمًا ليس بالظن أن مفاوضات صدقي - بيفن، كانت زلة وقى الله شرها، وأن الله سخر النقراشى ليقيل مصر والسودان من تلك العثرة المردية، وأن مصر والسودان قد عزمت أمرها على أن لا تضع يدها في يد بريطانيا مادام لها على أرض وادي النيل ظل تستظل به أفاعيها، وثعالبها، ووحوشها وصنائعها أيضًا.
وخير لصدقي باشا ومن كان على شاكلته أن يعلم أشياء كثيرة، فلا يغرر بنفسه في مهالك بريطانيا التي تطأ بأقدامها كل من يخدمها إذا رأت في ذلك خيرًا ينفعها. خير له أن يعلم أن الزمن الذي كان هو فيه أحد أبطال السياسة، قد انقلب كله وذهب وعفَّى عليه الذي عفي على مآرب كثيرة. وخير له أن يعلم أن الجيل الذي يعيش في هذه الأيام غير الجيل الذي كان يرهب سوط الجلاد ويخاف وسْمَ السياط على أبدانه، وخير له أن يعلم أن العِلْمَ القليل الذي كان يناله الرجل فيتبجَّح به ويخيل إليه أنه صار عقلا وحده، قد حل محله عقل كثير لا قبل لأحد بدفعه بعد اليوم. وخير له أن يعلم أن الدُّرة التي تتوهج اليوم بالإخلاص لمصر والسودان، خير من كل الدُرّ القديم الذي زيفته بريطانيا وملأت قلبه نعمة وجاهًا وسلطانًا، وخير له أن يعلم أن دَمَ أي صعلوك مصري سوداني مخلص
(١) هذا مَثَلٌ، يضرب للذي لا يكذب إذا حَدَّث. وأصل الرائد هو الذي يُرسَل في البحث عن الكلأ والمرعى، فإذا لم يَصْدُق قومه فقد غرَّر بهم وأهلكهم.