وفي خلال ذلك يقف صدقي باشا الذي اتخذته اليوم بريطانيا حجة على مصر، ليقول إن خير الوسائل لنيل حقوق مصر والسودان من بريطانيا هي المفاوضة، كأن هذا الرجل لم يعلم بعد أنه ظل روح ويغدو ويتلاعب هو وتتلاعب بريطانيا، وكانت العاقبة أن أفضى الأمر به إلى الاستقالة، بعد التكذيب الخبيث الذي كذبت به بريطانيا كل شيء قاله في تفسير بروتوكول السودان. لقد كان العذر متسعًا لامرئ سواه إن قال بمثل الذي يقول به. ومتى يقول هذا الرجل هذا الكلام؟ يقوله في ساعة الحرب التي شنتها مصر والسودان على بريطانيا!
إننا لا نبالي كثيرًا ولا قليلا بما يقوله هذا الرجل وأمثاله، وليس من همنا أن نقف عنده لنفنّده، بل همنا أن نبين أن وراء كلامه معنى آخر، هو أن بريطانيا لما أحست بتباشير الخذلان الذي سوف تناله في مجلس الأمن، وعرفت أنها لن تستطيع أن تواجه العالم بالأباطيل التي كانت تواجه بها المفاوضين فيرهبونها ويخشون بأسها، فلجأت عندئذ إلى قدماء صنائعها في وادي النيل ليخذلوا قلوب الناس ويخوفوهم ويوقعوا بينهم يبغونهم الفتنة، ويكون ذلك فَتًّا في عضد النقراشى، وتمهيدًا لانقلاب يحدثونه مرة أخرى بالقهر والتهديد، وبخيانة من يستحلى موارد الخيانة لبلاده -لمال يناله، أو جاه يحرزه، أو أبهة يختال فيها، أو أمل يمنى بإدراكه على يد بريطانيا صاحبة النعم الجزيلة والآلاء التي لا تنفد!
إن بريطانيا تبذل الآن كل جهدها في ردّ مصر والسودان عن الطريق الذي لا طريق غيره لمن أراد أن ينال حقه، وأن يجعل هذا الحق ذِكْرًا مذكورًا في قلوب الأبناء والأحفاد حتى لا تنطمس معالمه، وحتى لا ينخدع الناس عنه بقليل مدلس عليهم كما حدث في تاريخ مصر والسودان منذ سنة ١٩٢٤ إلى هذا اليوم، حتى بلغ البلاء أن صار الناشئة يقولون:"مصر والسودان دولة مستقلة"، وكلهم يعلم ويرى ويشهد بعينيه الغزاة في ثيابهم يروحون ويغدون في الشوارع والطرقات، ويغشون دور الملاهي ويقيمون المدارس المعادية لروح مصر والسودان في قلب بلادنا، ويحمون لصوص الأجانب، وينصرونهم على أبناء البلاد بكل ما استطاعوا.