للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أن الدكتور طه نفسه، قائل هذا الكلام، قد فعل ذلك فكذبهم حين روى الرواة ما لا يعجبه، وحين رووا ما يؤذيه، وفعل ذلك أيضًا فصدقهم حين رووا ما يروقه، وحين رووا ما يرضيه. فإن الذين رووا أخبار الغنى والمال والسلطان، هم الذين رووا أخبار عبد الله بن سبأ اليهودي وأخبار الكتاب الآمر بقتل وفد مصر، فلم أخذ شيئًا بغير برهان، ونفى أخاه بغير برهان؟

والشيء البيِّن هو أن الدكتور الجليل أراد كما قال في ص ١٣٤ أن يكبر المسلمين في صدر الإسلام "عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديًّا، وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديًّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا". وهذا قصد حسن ونية جميلة، ولكن الحق أحسن منهما وأجمل. وليس يجمل بنا ولا بالدكتور طه أن يغالط في الحق لشيء يراه هو أو نراه نحن حسنًا جميلا. والتاريخ لا يكتب بالتحكم، وإنما يكتب بالرواية، ثم بالاستدلال، ثم ببذل الجهد في سد الفجوات، وسبيل ذلك أن تأخذ من الماضي أسبابًا وعللا وحوادث ذات خطر، فإن استقامت أن تمتد معك إلى الحاضر الذي تؤرخه، فهي حقيقة بأن تكون شيئًا من التاريخ يوشك أن يكون حقًّا كله أو بعضه.

ولست أحب أن أعلم الدكتور طه، ولكني سأضع بين يديه حقائق لا يدخلها الريب أبدًا، ثم أسأله أن ينظر فيها، وأن يحكم هو بيني وبينه. وسأختصر القول اختصارًا، فإن أكثر مادة هذا الحديث مما لا أظن بالدكتور أن يجهله أو يغفل عنه.

فلنعد إلى حديث قديم كان قبل البعثة بقليل، وكان شديد الخطر في تاريخ العرب، وكان يوشك أن ينتهي إلى حدث جليل في تاريخ مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد كان يسكن هذه البلدة الكريمة بنو أم واحدة وأب واحد من قبائل الأزد بن الغوث: أمهما قيلة، وأبوهما حارثة بن ثعلبة، وهؤلاء هم الأوس والخزرج، وكان يعيش بينهم هذا الجيل من اليهود الذي سكن جزيرة العرب، أو سكن المدينة، فكان من خبر ذلك شيء لم يكن مثله مثلا بين بني هاشم وبني أمية،