للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وهو الحرب المتطاولة بين هذين الحيين اللذين ولدتهما أم واحدة وأب واحد، ويسكنان معًا بلدة واحدة. وظل هذا القتال بين الحيين متجدد النيران إلى أن كان "يوم بُعاث"، وهو كما قال ابن سعد ج ٣ قسم ٢ ص ١٣٥: "آخر وقعة كانت بين الأوس والخزرج في الحروب التي كانت بينهم. . . وكانت هذه الوقعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قد تنبأ ودعا إلى الإسلام، ثم هاجر بعدها بست سنين إلى المدينة".

ونشأة هذه العداوة العجيبة بين الأخوين: الأوس والخزرج، واقتتالهما هذا القتال المر العنيف حقبًا متطاولة، ودخول اليهود في الحلف، بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، لا يصيبهم من أذى القتال بين هذين الحيين الأخوين إلا القليل، وتداعيهم باسم اليهودية إذا حزب الأمر، فيكونون يدًا واحدة على هذه العرب، ليس له معني إلا أن تكون هذه اليهود هي التي أرَّثت الحرب والعداوة بينهما لتؤثِّل في هذه الأرض أموالا وآطامًا وحصونًا تكون لها عدة وقوة، وتظهرها على أهل البلاد المالكين لها، وتصرف وجه هؤلاء القوم عن الزراعة والتجارة وتثمير الأموال، وتبقى يهود هي صاحبة الزراعة والتجارة وتثمير الأموال بالربا ومآكل السحت (١). وهذا عمل يهود في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل زمان إلى يوم الناس هذا.

ثم لا يلبث أن يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطًا من الخزرج عند العقبة، وكانت يهود كما قال ابن إسحاق، قد عَزُّوهم ببلادهم، أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، فلما دعاهم رسول الله إلى الإسلام قالوا له: "إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك". فيؤلف الله قلوب الأوس والخزرج، وهم الأخوان، على الإسلام فيفشو فيهما فُشوًّا ظاهرًا. ولا يلبث رسول الله أن يهاجر إلى المدينة، فلا يبقى حي من الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام وظهر فيه. فيمر


(١) السُّحْت: كل حرام خبيث، وما خَبُث من المكاسب وحَرُم فلَزِمَ عنه العار وقبيح الذِّكْر.