أضلهم أساتذتهمِ من المستشرقين، فغفلوا عن تعليل الردة كيف كانت؟ وكيف بدأت؟ ومن بدأ بها؟ وكيف تم أمرها؟ ولم يسأل واحد منهم نفسه. أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن يقضِي نبي الله عشر سنوات منذ هاجر إلى المدينة حتى قبضه الله إليه، فلا يمضي يوم واحد لا يلقى فيه أشد البلاء من كيد يهود، ومن كيد أشياعهم وصنائعهم من المنافقين، ثم يظل رسول الله هذه السنوات العشر وهو يقاتل اليهود ويقاتل مكايدهم في الأوس والخزرج، وفي القبائل، وفي الأعراب حول المدينة، ثم يظل رسول الله يتلقى الوحي عن ربه هذه السنوات العشر، فإذا أول سورة تنزل عليه وهي البقرة، أكثرها في ذكر اليهود والمنافقين وبيان حالهم وصلة بعضهم ببعض وائتمارهم جميعًا بالمؤمنين الذين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله. وإذا آخر سورة تنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وهي براءة كلها في صفة اليهود والمنافقين، وفي الكشف عن أقوالهم ودسائسهم وكذبهم وخداعهم حتى فضحتهم ونبأتهم بما تخفي صدورهم من الكيد والغيظ والنفاق، ثم يكون آخر ما يتكلم به - صلى الله عليه وسلم - وهو في كرب الموت:"لئن بقيت لا أدع في جزيرة العرب دينين"، وأمره لصحابته:"أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب"، ثم يقبض الله إليه رسوله ويبايَع أبو بكر، وما هي إلا أيام قلائل حتى تشتعل نيران الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب شمالا وجنوبًا وشرقًا وغربًا -أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن لا نجد بعد هذا كله شيئًا في كتب القدماء أو المحدثين -أو المستشرقين إن شئت- ذكرًا لليهود والمنافقين في أمر الردة؟ أهكذا ينتهي فجأة من تاريخ العرب ذكر اليهود والمنافقين بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعُها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله وللمؤمنين والمؤمنات عشر سنوات كاملة متتابعة يومًا بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى (في سنة ١١ من الهجرة) نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حَدَث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام- برئوا من الردة (في سنة ١١ من الهجرة)، وبرئوا من مقتل عمر (في سنة ٢٣)، وبرئوا من الفتك بعثمان بن عفان - رضي الله عنه - (في سنة ٣٥).