لا شيءَ إلا وفيه أحسنهُ ... فالعينُ منه إليه تنتقلُ
فوائد العين منهُ طارفةٌ ... كأنما أُخرياتهُ الأُوَلُ
ولقد كنت أتعجب لبيت العقاد كيف نزل مع كل هذا الشعر، وكيف خفى عنه موضع التقييد من مثل قول جرير "من شيء يروقهم"، وقول مسلم "زهرة الدنيا" و"شيئًا تُسرُّ به" وما إلى ذلك، ووجهتُه مع سائر القصيدة فلم يزل مختلًّا ناقصًا معوجًّا لا يستوي. وزادني عجبًا قوله في نهاية الشعر (تُؤام)، ولم أجد للفظ معنى ولا رأيت له وجها يتوجهُه مع مقاصد الغزل الفلسفي حتى وقعت لي أبيات ابن الرومي فإذا قوله (تؤام) ترجمة للفظ آخر هي لفظ (معًا) في قول ابن الرومي ينحو إلى هذه المعاني بعينها:
فالعين لا تنفكُّ من نَظَرٍ ... والقلب لا ينفكُّ من وَطَرِ
مُتعاتُ وجهك في بديهتها ... جُدُد وفي أعقابِها الأخَرِ
فكأنّ وجهكِ من تجدُّدِه ... مُتنقل للعين في صُوَرِ
وقول ابن الرومي (ومحاسن الأشياء فيك معًا) هو عمل الشعر في معنى غسيل قدَّم به العقاد لقصيدة غزل فلسفيّ وهو قوله: "فيك من كل شيء" ورحم الله الصولي الذي يقول:
أعرفُ مِنها شَبهًا ... في كل شيء حسَنِ
فقد أتى بالمعنى عاميًّا لطيفا مَجْفُوًّا غير صنيع، وهو على ذلك أرق من فيك مني ومن الناس. . . .
فهذا مذهب الشعر من لدن جرير إلى يومنا هذا ولم نستقصه في غرض واحد من أغراضه، وذاك مذهب العربية في معاني ألفاظها، وسبيل الفلاسفة في تحديد معانيها، وفي ثلاثتها قصَّر بيت العقاد وفسد واستحال معناه وتهالك منطقه. فمن أين يمكن وصف الرافعي -إذا نقد هذا البيت- بأحد أمري الأستاذ قطب: إما أن يكون ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت هذه اللفتات الغنية