إن حب البقاء في الحي الفرد، أقوى من العقل، أقوى من حب المعرفة، أقوى من حب المال. فإذا ظفر بالبقاء على أمه الأرض، فقلما يبالى بشيء غير هذا البقاء. ولكن الحياة الإنسانية مجتمعة لا تستقيم بحب البقاء وحده. فالاجتماع الذي يضم هؤلاء الأحياء المتشبثين بالبقاء، يحدث لهم ضروبا جديدة من الأماني والآمال والمطامح، تغلب هذا الحب الخفي للبقاء المجرد في الفرد، وتنشيء فيهم حبًّا لبقاء آخر: هو بقاء حياة الجماعة، من حياة أنشأها الإلف والتعود، وحياة تنشئها الأماني في حياة أتم وأكمل وأمجد. والنزاع بين حياة الإلف والتعود، وحياة الأماني في الكمال والمجد، نزاع عنيف، وهو على عنفه أمر غامض في نفوس عامة أفراد المجتمع، لأنه يقوم على أماني مبهمة دائما في أول أمرها. ولا تستبين هذه الأماني إلا في فئة قليلة، تملك من القدرة على النظر، وعلى التأمل، وعلى البيان عن نظرها وتأملها، قسطا يتيح لها أن تحاول التعبير عن هذه الأماني، تعبيرا يخرجها من حيز الأمر المبهم إلى حيز الأمر البين.
فمن هذا المدخل يدخل على الجماهير أحد رجلين: إما رجل عاقل صادق يحسن النظر والتأمل والبيان، وإما رجل ذكى قادر يموه عليهم بالنظر والتأمل والبيان. أحدهما عارف يصدق الناس ولا يبالى، والآخر دجال يلعب بالناس ولا يبالى. أحدهما لا يأخذهم إلا بالوسائل التي تقوم على الصدق والعدل والحق، والآخر يأخذهم بكل وسيلة لا يعبأ بصدق ولا عدل ولا حق. أحدهما يعلم الناس معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، كما ينبغي لكل تَعَلُّم، من جهد ومشقة وحذر وبصر. والآخر يعلمهم معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، بما يستثيره فيهم، وما يستغله من نزوعهم وتلهفهم، لا يأبه لشيء إلا لما يستخفهم إلى اتباعه وطاعته وتمجيده.
فالحرية مثلا سوق تهوى إليه نفوس المستعبدين. كلمة مبهمة تعيش في سر نفوسهم كالقبس المكفوف، لو كشف غطاؤه لأضاء. فالرجل الصادق يعلم النفوس معنى الحرية، ويكسبها من وسائل تعلُّمها ما لابد لها منه من صدق وعزيمة وجد ومشقة وبصر، حتى تتهاوى الجدران التي تحول بينها وبين