الانطلاق، وتنفض الأغلال الثقيلة الغليظة التي تعوق الحي عن إدراك حريته. أما الدجال، فهو لا يزال يصرخ فيهم باسم الحرية، ثم لا يمنح الناس من وسائلها إلا كل وسيلة لا تغني شيئًا في كفاح الجدران والأغلال، بل ربما زادت الجدران صفاقة وقوة، والأغلال ثقلا وغلظا وفداحة. فهذا هو الباطل المشرق، لأنه يأتي الناس من حيث تهوى أفئدتهم معنى مبهما غامضًا كريما، فيموه هذا المعنى بما شاء من تمويه، ليسير الناس وراءه كما هم عميًا صمًّا، لا ليعلِّم الناس حقا يطلبونه ويحرصون عليه ويزدادون معه على الأيام بصرًا وإدراكا.
وهذا العالم الإسلامي الذي يموج اليوم موجه، ينبح في نواحيه هذا الباطل المشرق ينبح في السياسة، وفي العلم، وفي الأدب، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي جماع ذلك كله: في الدين. هو عالم مستغل، يستخفه الدعاة والدجاجلة، يهتبلون غفلته في هذه الحياة التي ظن أنه ارتد إليها بعد همود، ويختلسون نفضة هذا الشوق المضطرم إلى أمان مبهمة غامضة. ويتولى قيادته في كل شأنه ألسنة لا تبالي، تستفزه إلى المغامرة في سبيل الحياة الماجدة الطيبة التي تجيش فيه. تستفزه بالنداء الصارخ باسم هذه المعاني المبهمة في ضميره، وتعطيه وسائل وأساليب يظنها معينة له على إدراك ما يشتاق إليه، وهي في الحقيقة مفضية به إلى التمرغ في حمأة الجهالة والعبودية والغرور الكاذب، إلى أن يقضى الله في الناس بأمره وقضائه.
وأخطر هذه الألسنة التي تستفز هذا العالم، هي الألسنة التي اتخذت كلمة الإسلام لغوًا على عَذَباتها (١) -لا لأنها أعظم شأنًا وأعز سلطانا من الألسنة الأخرى، ألسنة المموهين باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق، بل لأنها تعمد إلى كتاب أنزله الله بلاغا للناس، وحكمة أوحيت إلى رسوله لتكون نبراسا للمهتدين، فتحيلهما إلى معان من أهواء النفوس التي لا تعرف الحق إلا في إطار من ضلالاتها وأوهامها. ثم يتبعهم التابعون الجاهلون اتباعا، هو
(١) العذبات هنا: أطراف الألسنة، وأصل العَذَبَة: طرف السَّوْط.