العصمة التي لم يقضِ الله لأحد من الناس أن يبلغها. وهو وراء ذلك أحد المتصوفة الذين عرفوا حقيقة التصوف لا أوهامه التي ملأ بها الدخلاء ساحة التصوف، وأحد الذين يَزِنون العلم الحديث وما نشأ عنه من أحوال الاجتماع بميزان يفرق بين الخير والشر والحق والباطل، فهو يطلع عليهِ اطلاع المتبصر الذي لا يرضى لنفسه أن يكون من الغوغاء أتباع كل نظرية هوجاء لا قرار لها على حال.
ولهذا الرجل إحساس علميٌّ عجيب، فهو لا يكادُ يسمعُ بأديب أو فقيه أو عالم أو فيلسوف إلَّا حنَّ إليهِ وقلقَ إلى رؤيتهِ، ورغب في التحدث إليه وسبر غوره، فلا تصرفهُ شواغله وهو في دار الغربة عن أن يقدم أهل العلم -أيًّا كانوا- بالزيارة بل تراه يبدؤهم بها. ويرحل من بلد إلى بلد لأن فيهِ عالمًا جليلًا قد قرأ آثاره أو سمع بهِ. وأنت فظُنَّ كيف تقدّرُ رجلًا من أقصى المغرب بفاس، لا يذكر أمامهُ اسم عالم أو غيره في مصر أو الشام أو الجزيرة العربية أو العراق أو الهند أو الأفغان أو الترك إلّا عرفهُ وقصَّ لك من أخباره وعدّدَ لك من كتبه. ومن هؤلاء الناشيء والمغمور الذي لا يعرفهُ أهل بلده على حين أنهُ منهم بمنزلة البنان من راحته. بل. . . يسمع اسم الرجل يراهُ أمامه فيطمئنُ قليلًا ثمّ يسأله من أي بلدة هو فما يجيبُ حتى يسأله عن علماءِ هذه البلدة من مات منهم ومن حيّ وعن كتبهم كيف كان مصيرها، ثم يعدّدُ لهُ بعضَ ما أَلَّفُوا. . . ويذكر له روايته عنهم إن كان رَوَى عنهم شيئًا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك.
فمن أجل هذا الإحساس العلميّ المركّب فيهِ أتيح له أن يجمع مكتبة في داره بفاس تُعَدُّ من أغنى المكاتب الخاصة وأنفسِها في العالم العربي كلّهِ، فيها من النفائس والنوادر والغرائب ما لا يوجد في غيرها. وهو لا يكاد يسمع بكتابٍ نادرٍ حتى يسارع إلى استنساخهِ أو تصويره بالفوتوغراف. وها هو قد نزل مصر فجمع من شوارد المخطوطات ونوادرها أشياء كانت بين سمع دور كتبنا وبصرها ثم غفلت عنها. ويجلس هذا الرجل في نُزُله فيأتيهِ الوراقون بالمخطوطات حديثها وعتيقها فما يفتح أحدها حتى يعرف ما الكتابُ ومن صاحبهُ ويفرح بالكتاب النادر فرح الذي ضنَّ عليهِ الزمن طويلا ثم جاد. وبالله أشهد صادقًا لكأنى أرى الكتاب