للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بين يديهِ يكاد يحنُّ إليهِ حنين القلب الممزق المفطور إلى سبب من أسباب سلوته وراحته، ولكأني أراهُ يمسك الكتاب براحته كما يمسك أحدنا الشيء فيهِ من آثار قلبهِ وحبهِ وآماله ورغباتهِ ما فِيه، ويلقي عليهِ نظرةً عاطفة تكاد تحييهِ من عطفها وحنانها وحدَبها وأشواقها.

هذا هو الرجل العالم المتيم بالكتب، الذي يطّلع جاهدًا على آثار الناس وما ينشرون في الكتب والصحف والمجلات ويعي أسماءَهم ويسأل عنهم ويرغب في رؤيتهم ويرحل إليهم بادئًا بالزيارة. وفي هذا الرجل رجل آخر قد جعلت من عينيَّ جاسوسًا مقتدرًا نفاذًا يتتبع نظراته وحركاته وما يبدو على وجههِ وجبينهِ من آيات التغيُّر والتبدل حتى عرفتهُ أو كدت.

حدثتا عنهُ فقالتا: هذا رجل في عِظَم هامتهِ واتساع جبينهِ والتماع عينيهِ دليل على قوة مستحكمة شديدة. وهذه القوة -مع ما فيها من شدة- هادئة وادعة مسالمة، تتريث مفكرةً، فلا تظهر ولا تستعلن إلَّا ساعة الجد حين تعلم أن قد دنا أوانها، وأن موضع الفصل قد استبان، وأنها لن تخطئ. وهو رجل في أسالة خدّه ورقّة نظرته شاهد على طيب الخُلق، ودماثة الكنف، وحسن العشرة، وكمال الحنان والعطف، وهو رجل في تفاجّ (١) ثناياه وانطباق شفتيهِ وطول صمته -إذا لم يدعَ إلى كلام- وعمق نظراته في هذا الصمت برهان على الصبر في كل ملمة ومع كل أحد. قالتا: ثم هو رجل حلْوُ النفسِ صادق مخلص أمين على ما يؤتمن عليه رضيُّ الشمائل في كل حين. . . أما تراه يبتسم ابتسامةً رقيقةً لا تكاد تخلص إلا عن قلوب الأطفال المبرَّئين أو الكرام الصالحين فإذا ضحك اهتزَّ جميعه لأن ضحكته تصدر عن قلبه الطيع الكريم الذي يتحكم في كل عضو من أعضائه. وهو بعد رجل كتوم يحمل الآلام بين جنبيه وهي تمزق قلبه وتفتك فيه. ينظرُ النظْرة المترامية في مفاوز الماضي البعيد فيرجع بالذكرى الأليمة، وعلى نظراته معنى البكاء الذي لا يجد في الدمع ترجمانًا أو معينًا. وهذه وحدها نظرة


(١) التفاج: التباعد، وهو في الثنايا مدح.