ما يمكن أن يسمى علمًا أو معرفة، وليس ذلك من شيء إلّا هذه النزعات الفردية التي مزقت العالم الإسلامي، وهذه الجنسيات البغيضة التي قضت على الحياة السعيدة بين أمم الشرق الإسلامي. وإنك لترى كثيرًا من شباب الشرق يعرف أخبار فرنسا وانجلترا وألمانيا وأميركا وغيرها من بلاد لا يربطُه بها دم ولا لغة ولا دين، فإذا ذكرت الأمم التي تربطُه بها الدم وتجذبُه إليها اللغة ويميل بهِ إليها الدين والعقيدة وَقَف مِنْ ذكرها موقف الغريب الذي أخذته الدهشة وأذهلتهُ الحيرة. والسبب في هذا التدابر العجيب -بعد الاتصال والإخاء- هو ما أشرنا إليهِ من ظهور فتنة الجنسيات، ثم انصراف الشباب منا عن تتبع أخبار الأمم الشرقية عامة والإسلامية خاصة، ثم قلة عناية الصحف بأخبار هذه الأمم، ثم هذا الكسل الذي اعترى أهل الشرق فصرفهم عن التزاور والتعارف، هذا مع أن الرحلة هي أهم أسباب المحبة بين الناس وأحسن طرق المعرفة وأجل الأعمال خطرًا في بسط النفس والفكر والامتداد بهما إلى طلب السعادة والخير والمنفعة التي تعمُّ ولا تقف عند الحدود الضيقة التي نصبتها الشهوات المدنية.
* * *
ظهر كتاب "حاضر العالم الإسلامي" للمرة الأولى سنة ١٣٤٣ من الهجرة، وكان الشباب يغلى في دمى غليان المرجل، وكنت أحب أن أتسقط أخبار الأمم الإسلامية ما استطعت، وكنت أؤمل آمالًا كثيرة يُمِدُّها خيالى وتزينها أحلامى، وكان يقوم على تهذيب نفسي وتشذيب آمالى وأحلامى رجل أحب أن أعترف بفضله عليَّ، وهو الأستاذ "محب الدين الخطيب" الذي طبع كتاب "حاضر العالم الإسلامي" بمطبعتهِ للمرة الأولى. فكان هذا الأستاذ الجليل أول من هدانى إلى قراءة هذا الكتاب، وما عليهِ من تعليقات شيخ الكتَّاب الأمير شكيب أرسلان، واستفدت من تعليقاته عليهِ أكثر مما استفدت من كلّ كتاب قرأتُه إلى هذا اليوم، فلما ظهرت هذه المطبوعة الثانية ورجعت إلى قراءتِه مرة أخرى انفسح لي مجال الفكر فيهِ أكثر من ذي قبل وكأنى ما قرأت منه حرفًا قبل هذه المرة وذلك لأن الأمير شكيب استوفى أبوابه وحشد لها علمًا كثيرًا لا يقوم بهِ غيره، ولا غرو، فإن هذا الرجل قد سلخ من عمره خمسين عامًا أو تزيد في تتبع