الشعراء الخُلَّص الذين لا يطلبون بشعرهم شهرة ولا صيتًا ولا دعوى مستطيلة هم ناسٌ من البشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم إلَّا أنهم من الأمم بمنزلة مقياس الحرارة (الترمومتر) الذي يؤثر فيهِ تقلُّب الجوّ تأثيرًا ظاهرًا بيّنًا يثبته العدد فلا موضع فيه للجدل إلَّا أن يكون هذا المقياس في ذاتِه مختلًّا فاسدًا لا يدلّ على حقيقة الجوّ الذي يحيط به وبذلك يصبح مقياسًا لنفسه لا للناس. والحقيقة لا تعرَف إلَّا من المقياس الصحيح الذي لا خللَ فيه فالناس جميعًا مفتقرون إليه، أما المقياس الفاسد فلا يرجى له خير إلَّا أن يحطَّم أو يهمل وما بأحدٍ إليه حاجة. وهذا مثل الشعراءِ في كل أمة من الأمم.
ونحن من قبلنا أيضًا لا نستنكر على شاعر أن يرقّ حتى يضعف ويبكى ويئن ويتوجع من آلام الهوى وتباريح الصبابة ما كان ذلك الشاعر صادقًا لا يتباكى، محبًّا لا يتصنع لأن الشاعر -كما سلف- رجل من الناس ربما كان له من أسباب الهوى ما يدنفه ويبكيه، وهذه الأسباب تكون له جوًّا يحيط بهِ خاصةً فهو يتأثر به على كل حال. إلَّا أن هذا الشاعر نفسه رجل من أُمَّة يكون لها من أسباب القوة والسيطرة والعزة ما يكون لها، أو رجل من أمة بها من الضعف والفتور والذلّ والاستعباد والمهانة ما تضرب به الضربات الشداد بمعاول الظلم والجَبرية والعدوان والشر الاستعمارى القبيح الدنئ. فلابدَّ للشاعر من هذه الأمة أن يكون لسان الأمة الذي يتكلم بأوجاعها وآلامها وأن يكون من جهة أخرى قائدًا من القوَّاد يقف في قلب الجموع المسكينة خطيبًا تنفذ كلماته إلى القلوب لتحركها وتنعشها وترمى فيها بالحياة والشباب والنشاط وبذل النفس وغلبة الرأي على الشهواتِ والأهواء. وأن لا يكل ساعة عن الجهاد والدعوة إلى الطريق السوىّ. فإذا خلا الشاعر قليلًا قليلًا إلى نفسه وغلبتهُ الحياة الفردية والأهواءُ الخاصة فليقل ما شاءَ بمقدار لا يُلين منهُ ولا يضعف من قوى جنده، وليستجم لنفسه بما يجعله أقدر على الجهاد حين يعود إلى الميدان بين المتألمين والمحطَّمين والباكين مما يصيبهم من وحوش الاستعمار والعدوان التي توسعهم نهشًا وتمزيقًا وافتراسًا.
هذه سبيل الشعر لأمتنا العربية في أمرنا هذا من أيامنا هذه. أما أن يأخذ أحدنا