فأنت إذا أردت أن تعرف معاني هذه الحروف فارجع إلى الفقرة الأولى من العبارة، وما تحملك عليهِ إرادة التعبير من التفريج عن نفسك بالمنطق أو التصويت الذي هو قوةٌ كامنةٌ في الإنسان لابدَّ لها من العمل والمطاوعة حين تجد الحافز الذي يدفعها إلى تقرير طريقها في العمل لا يُلائمها تغيير عنيف في النظم، فهنالك فارق في العادات والأخلاق والمدنية والتعليم والدين.
وأول ذلك أن تنظر إلى الحاجة التي تدفع إلى التعبير، ولعل من أوائل الحاجات التي يُدفع الإنسانُ للتعبير عنها النداءُ والتعجُّب والتأوُّه والأنينُ والإشارةُ والتنبيهُ، وغير ذلك مما تدعو إليهِ معاناة الحياة الفطرية الأولى التي بدأ الإنسان بها عمله على الأرض. فإذا استوعبت أمثال هذه الضرورات وجعلت تأخذُ نفسك بتدبرها في فطرة الإنسان رأيت أن النداءَ مثلًا يعتمد على أصوات الحلق المقذوفة من الجوف مطلقة في الهواء لتبلغ بالصوت أقصى ما يطيقه تدافعُ الهواء الذي يجعله. وكذلك الإشارة والتنبيه يتطلبان من المشير والمنبه إرسال الصوت خارجًا من الحلق إلى حيث يلاقى الهواء المقابل لفم الإنسان. ثم إذا أنت أردت كل حرفٍ بما يتجلى من صداه المقرون به -على المعاني الأولى- استطعت أن تقرّر لصدى الحروف معاني من النفس أو من المحاكاة أو من التمثيل للحركة أو الصوت المسموع أو غير ذلك.
ونحن إنما نتكلم عن العربية، لأنها في اعتقادنا -بعد الذي مارسناه من معانيها- أدقُّ اللغات احتفاظًا بالمعاني الفطرية للحروف، بل هي أكثر اللغات احتفاظًا بحركة الإنسان الأوَّل في الإشارة إلى المعاني، وذلك حين يريد أن يقرن الصوت بحركة دالّة على معنى من الإشارة يُفهم بهِ المتكلمُ المخاطبَ ما يريد أن ينبههُ إليه أو أن يحمله على فهمه. فنحن نختصر لك طريق الكلام عن الحروف المجردة وحدها بإدماج ذلك في تركيب الحروف بعضها مع بعض، غير مخلّين بالبيان عن المعاني التي يتحملها الحرف الواحد من حروف هذا اللسان. ولا يهولنَّك ما سنقدم عليه، ولا يذهبنَّ بك أنا لا نستطيع أن نجرىَ اللغة كلها على هذا الأصل، كلا، بل نحنُ نستطيعُ ذلك، ونستطيع أن نحاول معرفة