فهذه القوة التي لا تقف أبدًا بل تندفع إلي الإمام في كل وقت كما تكاد تعرفها في عُمَر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هي نفسها القوة المكيثة المتريثة التي كان عمر يوصى بها قواده وعماله. ففي عمر قوة الاندفاع وقوة الضبط معًا لا تفقد إِحداهما حيث يجب أن تكون. "إن البأس الذي رُزِقته نفس عمر لحظٌّ عظيم، ولكنه لو كان في يَدَيْ غيرِها لقد يكون نصيبها أَوْفى من نصيبه وهو في يديها. فلم يشحذه عمر قط لغرض يخصه دون غيره" وكذلك "يقوي الرجل فلا يخافه الضعيف بل يخافه من يخاف الضعفاء" كما قال العقاد في فصل من كتابه.
ومن قديم والناس يخوضون في موقف عمر من سيف الله خالد بن الوليد حين عزله، ثم أتى جماعة من المحدثين -عربهم ومستشرقيهم- فاستوحلوا فيه إلى الأذقان، فانبرى العقاد لأقوالهم ففندها بالحجة التي لا يقف لها شيء، ولم يجعلها كذلك إلَّا هذه الحدود التي استطاع أن يميز بها أخلاق عمر وطبائعه، فإنهُ استخدم كل ما استبان لهُ من شخصية عمر بعد التحليل المقنع، وسرد القصة كلها بما يرتضيه العدل والمنطق والتاريخُ، وإذا شئت أن تتثبت من ذلك فاقرأ من ص ٣٣٨ - ٣٦٤ فلعلهُ خير ما كتب إلى اليوم عن هذه المسألة التي ضلَّ فيها من ضلّ.
إن كل فصل من هذا الكتاب يستوقف الناظر فيه، فلا أدري ما آخذ منهُ وما أدع ولقد جاهد العقاد فأبلى بلاءً حسنًا. . . إنما كان يقاتل تاريخًا مختلطًا مبعثرًا قد أهملهُ أهلهُ، وآراء باغية قد رمى بها قوم عزتهم عن أنفسهم قوة أيامهم وعلوّ سلطانهم، وتكاذيب قد تجمل بها المستضعفون من الكتَّاب. ولقد دل بهذا الكتاب على أن التاريخ العربي والإِسلامي إذا استوى لهُ كاتب قد قرر المذهب على أصول صحيحة، استطاع أن ينفي عنهُ زغلهُ (١) وأن يبعثهُ بعثًا جديدًا بعد تراكم الأتربة التي قبرتهُ أجيالًا طوالًا.
(١) الزَّغل: لا أعرف لهذا الحرف معنى يستقيم في موضعه من السياق هنا. والزغل: مَجّ الشراب أو صبّه، ورمْيُ البعير بِبَوله، ورضع الفصيل أمه على كره منها، وغير ذلك. ولابد أن الأستاذ شاكر قد وقف على معنى مخالف لما في كتب اللغة أخلت به.