للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ص ١١١ - ١٤١ فأبان عن تعادُل القوى النفسية في عمر بحيث لا تطغى صفةٌ من صفاته على الأخرى فتتحيَّنها أو تأكل بعض حقها في العمل. فالعدل والرحمة والغيرة والفطنة والإيمان، هذه كلها في عمر تتعاون تعاون الأسلحة الحربية في الغرض الذي ترمى إليه، وأَصل ذلك كله مجتمع في الخلق الغريزى الذي طبع عليه عمر، وهو طبيعة الجنديّ الحازم الصارم الذي لا يلتف إلى وراءَ إذا عرف أنَّه لابد منتصر على العقبات التي تخيّل له لتضعف من حدَّتهِ. وقد جعل العقاد "طبيعة الجندي" هي مفتاح شخصية عمر، ولقد وفق في ذلك أحسن التوفيق، إذ هي التي انتظمت جميع خلائقه فرمت بها إلى أغراضها، وحمتها أن يطغى بعضها على بعضٍ.

بل إن الحدود التي حدّ بها طبائع عمر، وبيانه عن طاقة كل قوة من قواه، وتحديده لعملها في عمله، قد أعانهُ كل العون في تصحيح الروايات المختلطة التي تروى عن عدل عمر أو رحمتهِ أو قسوته أو لينهِ، فاستطاع مثلًا (من ص ٤٩ - ٥٨) أن ينفي من قصة عبد الرحمن بن عمر وأبى مسروعة حين شربا الخمر بمصر فحدَّهما عمرو بن العاص، وأعاد عمر الحدّ على ابنه حين حُمل إليهِ بالمدينة -استطاع أن ينفي كل المبالغات التي دخلت على الرواية، واستخرج منها الرواية الصحيحة التي تطابقُ الحقّ والعدل في غير زيادة أو نقصان.

وبذلك أيضًا استطاع أن يعرّف برحمة عمر تعريفًا لا يدع شكًّا لأحد في أن عمر كان يرحم بفطرة مستقيمة لا تظلم ولا تقبل الظُّلم فهو يرحم الصغير والكبير، والمسلم والذميّ من أهل الكتاب سواءٌ، فهو لا يرحمُ المسلم لأنه من أهل دينه، ثم تذهبُ الرحمة من قلبه لامرئٍ ليس من أهل هذا الدين، بل هما لديهِ سواءٌ فيما استوجَبَا بهِ الرحمة.

وليست تقتصر فائدة هذا البيان عن قُوَى عمر على الكشف عن خصائص أخلاقه وطبائعه، بل أعانت أيضًا على بيان أعماله كلها في تأسيس الدولة الإِسلامية، التي قاد جيوشها ووسع ممتلكاتها، وأرسل إليها عمالها ليحكموا البلاد، ويعلموا الناس دينهم الذي اتبعوه.