يقول لهم حين قال لنفسهِ في أول كتابه:"إن كنتِ قد أفدتِ شيئًا من مصاحبة عمر في سيرته وأخباره، فلا يحرجنّك أن تزكى عملًا لهُ كلما رأيتهِ أهلًا لتزكية. وإن زعم زاعمٌ أنها المغالاة، وأنه فرط الإعجاب"، "فالحق أنني ما عرضت لمسألةٍ من مسائله التي لغِط بها الناقدون إلَّا وجدتهُ على حجة ناهضة فيها، ولو أخطأه الصواب".
وهذا الذي فعله هو على التحقيق طريق العالم المتثبت الذي لا يخاف ولا يتردّد، ولا يحاول أن يستجلب لنفسه المحاسن التي تقوم على دعوى اللسان، إذ يقول لهُ: هذا رجلٌ منصف! هذا رجل محقّق! هذا رجل واسع الذهن! هذا رجل يرى وجوه الرأي من جميع نواحيها! فإنما هذه كلها تعاويذ المرضى وتمائم الجهَّال.
لم يدع العقاد شيئًا من مقومات شخصية عمر إلا عقد عليه فصلًا أو بعض فصل، ومن هذه المقوّمات يتمثل عمر بجميع خصائصه وأخلاقه وما تدلُّ عليه أعماله من أول جاهليته إلى مقتله وهو أمير المؤمنين.
وما شك أحد في القوة النفسية التي كانت تتدفّق بهذا الرجل كأنها سيل جارفٌ، وكانت تسم أعماله وأخلاقه بسمة فذّة بين أعمال الرجالِ وأخلاقهم، وكانت على عهد رسول الله -وهو من هو- مميزة لعمر عن جميع أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. ولقد كانت هذه القوة التي لا يخطئها مؤرّخٌ يكتب عن عمر، سببًا في أخطاءٍ كثيرةٍ في فهم تاريخ الدولة الإِسلامية بل كانت سببًا حَمَل بعضَهم على أن يضعوا في الدعوة الإِسلامية أوهامًا مضلّة لمن لم يقف على حقيقة هذه الدعوة، ولا على حقيقة صاحبها، ولا على حقيقة عمر من بين أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. وكأن العقاد وقد تنبه لهذا من أول كتابه فهو يثبت لك القوة النفسية في عمر ويدلك على أنها مع اندفاعها وتدفقها لم تجعل صاحبها من أصحاب المطامع الطاغية التي تدفعهم إلى اقتحام الحقّ إلى باطلهم إن كان لابدّ لهم من ذلك. ولم يأت بها كلمةً تقال لتدفع شبهةً، بل عاد إليها في الفصل الذي عقده عن "صفات عمر" من ص ٤١ إلى ص ١١١، ثم في الفصل الذي يليه عن "مفتاح شخصيته" من