للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ترى الماءَ يذهب يمينًا وشمالًا؟ فلم يخش أن يقول لها يا أماه! أما والله ليَطولنَّ هيامى بها! ! . . . ثم يملأ قربتهُ وينصرف، ويأتي أخاه وابن عمه. ولم يطل بهِ الأمر حتى أخذه من هواه ما قرب وما بعد، فيلف رأسهُ، وينتبذ دونهما ناحية، حتى دنا رحيلهم فارتحلوا، وميّ أحلام ليله ونهاره.

وشبّ الغلام في وَهج الحبّ. . . في سعير الحرمان، فإذا هو شابٌّ آدم، رقيق البشرة، مدوَّر الوجه، أكحل حلو العينين، برَّاق الثنايا، حسن المضحك، أقنى الأنف، أنزع الرأس، حسن الشعرة جعدها، خفيف العارضين. . . بدويّ جميل المنظر، لوَّحه (١) البيد والأسفارُ، وإذا هو يفترُّ عن شاعر عاشق مُلْهم لُجِّيّ الصبابة، لا يشكو الحبَّ أحد أحسن من شكواهُ، مع عفةٍ وعقل رصين. وإذا هو يتعشق الأطلال في البوادي والقفار، فيقف عليها متأملًا قد نفذت بهِ أشواقه إلى سرِّ الرمالِ، فلا ينعتُ الفلوات، وسرابها، وأسفارها، وسَفْرها (٢)، وما فيها من شيء. . . شاعرٌ، أبرعَ من نعته. ويتسامع الناس بهذا "الغلام من بني عدى" الذي يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات، حتى يحسده فحول الشعراءِ كجرير والفرزدق، فيؤخروا ذكره لما يرون من حداثة سنه، وأنهُ لا يحسن من الشعر ما يحسنون. . . هذا المدحَ، وهذا الهجاءَ، وهذا الفخر! !

ولكن الفتى البدويّ العاشق يندفع إلى الحَضَر فيكثر أن يأتي الكوفة والبصرة يدَعُ رجز أهل البادية، ويأخذ في القصيد. ويلم بأهل الحضر فإِذا هو عندهم من أظرف الناس وأرقهم: بدويٌّ عاشق، عفيف الطرف، عذب المنطق. إذا نازع أحدًا الكلامَ لم يسأم حديثه، وإذا تكلّم أبلغ الناس، يضع لسانهُ حيث شاء، لم يكن أحد من القوم أحلى كلامًا، ولا أجلي منطقًا، ولا أحسن جوابًا منهُ، حتى كانوا يرون أن كلامه أكبر من شعره.

ولم يزل الفتى يتردد بين ديار ميّ في بلاد بني مِنْقَر، وبين دياره في بلاد بني عديّ، وبين الكوفة والبصرة. فتجلو أرض الحضر وحديث أهلها بعض ما في


(١) لوّحه: غيّر لونه وأضمره.
(٢) السفر: جماعة المسافرين، مثل راكب ورَكْب.