للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نفسه من جفاء البادية. حتى إذا لجَّ به هواه عاد إلى بلاد مى ينظر الديار بعينين ظامئتين، فإِذا خفَّ ما به انقلب إلى أهله، يحادث بينهم قلبه. ولا يزال يردد ذكر مي حتى عرف بها وعرفت بهِ، ولم يكن ما بهِ إلَّا هوى فتى لفتاة هو عليها -إن شاء- قادر. فقنع بذكرها وحبها زمنًا، وجعلت عناصر المأساة تتجمع من هنا ومن هناك ومن ثمة. وذو الرمة في أسفاره يتطرح (١) لكان البوادي والحضر، يستزير طيف ميّ على البعد، قد عمى عن فجاءات الغيَر!

لم تلبث مى أن تزوجت أحد رجال قومها: "عاصمًا المِنْقَرِى". نسيت الغلام الذي عجبت منه ومن أخيه مسعود، يوم.

"رأتْ غلامَى سَفَرٍ بعيد ... يَدَّرِعان الليل ذا السدود"

"مثل ادّراع اليَلْمَقِ (٢) الجديد"

نسيت ميّ عينيه تنظران في عينيها، وهي تصبّ له الماء في قربته، فيشغلها الحديث ويشغله، فيذهب الماء يمينًا وشمالًا. نسيتْ ذلك الهيام الذي انبعث في صوت الغلام يدعو هواها إلى هواه. لم تأبه لذلك القلب الغض الذي تنسَّمها فاستراح، ثم فارقها ليتعبّد لها ولطيفها في الليل والنهار. . . مات صدى كلماته وهو يقول لأمها: "أما والله ليطولنَّ هيامى بها"، فلم تجد لها في نفسها رجعًا. ويعرف ذو الرمة خبر زواج ميّ، فيجن جنونًا.

يومئذٍ ينبثق ينبوع الشعر في قلب هذا البدوى العاشق المحروم. الأمل، اليأس، اللوعة، الدمع، الصبوة، الأحلام، وساوس القلب، ديارها، زوجها، أخوها، الغدر، الذكريات، النظرة الأولى. . . كل هذه أخذت تتدفق في خطرات قلبه تحت الضربة الأولى من ضربات الغيرة المغيظة، المحنقة، الحاقدة. ميُّ. . . ميُّ. . . ميُّ. . .، هكذا يتردد صدى الضربات الملحة التي لا تفتر ولا تنقطع. . . ميُّ. . . ميُّ. . . ميُّ. . .، صدى يتردد في أذنيه من عن يمينه وشماله، قد ملأَ عليهِ أرضه وسماءه.


(١) يتطرح: يذهب ويجئ على ما بُعْد ما بينهما.
(٢) اليلمق: القباء الفارسى، وهي مُعَرّبة.