للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ميُّ. . . ميُّ. . . وتضرمت الروح باللَّهب القدسى، وانبعثت في عيني "ذي الرمة" تلك الشغلة الخالدة التي لا يطفئها شيءٌ، وأكلت النار التي لا تخبو كل غشاءٍ كان يحول بينة وبين ميّ. وإذا الفتى اللاهي جليد "قد حلّمته العشائر" (١). ويخرج من بلواه. . . من غيرته. . . من أحقاده، قد نصب وجهه لهجير الحياة، فإذا قسماته تتوهج بالعزم، والصبر، والمغالبة، وفي عينيه تلك النظرة النافذة المتأملة الساكنة، ثابتةً لا تنهزم.

لقد كان أحب فتاة هو عليها -إن شاء- قادرٌ، وهو اليوم يحب امرأة قد ضمها خدْر بعلها، فلا سبيل لهُ عليها. أحبَّ الفتى فتاته، ولكنه اليوم رجل يحب أنثى قد تصدّى وجودها لوجوده. ذهب الفتى وذهبت الفتاة، وبقى الرجل والمرأة.

أيُّ سرّ عجيب يمس الفتاة اللاهية المتقلبة فإِذا هي تستحيل إلى وجودٍ كامل. . . إلى قلب يسع الدنيا. . . إلى حب ثابت حافل؟ أي سرّ هذا الذي يحيل عاشقها الفتى إلى قوةٍ زاخرة منشئة مبدعة متجلية، لا تقف ولا تتردَّدُ. أي سر فيها يمنح العين دقة ونفاذًا؟ أي سر ينفث في البصيرة وعيًا مستوعبًا لا يضيق؟ بل أي سر هذا الذي يرد إلى العبد حريته ليزداد في حريته تعبدًا للرّق؟

وينظر ذو الرمة فيرى الأُسَى (٢) قد سبقته بين يديه. فما من شاعر من العشاق إلَّا قد ابتلىَ بمثل ما ابتلى به: امرأة ذات بعل لا سبيل لهُ عليها. أهي إذن "المرأة" وحدها لا الفتاة؟ أهي وحدها التي تحقق لهُ معني وجوده؟ فليذهب ليخالس الطرف إلى مى زوج "عاصم المِنْقَرى". ويركب ناقته "صَيدَح"، حتى إذا انتهي إلى ديارها لمح "ميًّا" مع الصبح تستقبل النهار.

وتجلو بفَزع من أراك كأنه ... من العنبر الهندى والمسك يُصبَحُ (٣)


(١) من بيت لذى الرمة، وتمامه:
أفي الدار تبكى أن تفرق أهلُها ... وأنتَ امرؤٌ قد حَلمتْكَ العشائِرُ
حلمتك: وَصَفُوك بأنك حليم.
(٢) الأُسَى: جمع أُسْوَة.
(٣) الأراك: شجر تتخذ منه المساويك. يُصبح: يُشقَى العنبر الهندى والمِسك في الصباح