للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذُرى أَقْحُوانٍ راحهُ الليل وارتقى ... إليه الندى، من رامة، المتروّحُ (١)

هجانَ الثنايا مُغْرِبًا لو تبسمت ... لأخرس عنه، كاد بالقول يفصح (٢)

هي البرءُ والأسقام، والهمُّ، والمنى، ... وموت الهوى، لولا التنائى المبرح

ويعود "ذو الرمة" إلى ديار أهله، إلى أخيه مسعود، إلى الذي جعل يركب معه الفلوات، يطيعه تارة حين يستوقفه على ديار مى، ويعصيه تارة أخرى ويلومه. ولم يزل ذاك أمره، يهيم في ديار مى أكثر من عشرين سنة، ومى لا تزداد في عينيه إلَّا ملاحة، ويتفجر شعره من قلبه، يشكو ما يلقاه من حبها، وما يقاسيه من البيد في الحنين إليها والوجد بها. ولا يلقى صاحبته إلَّا والحيُّ خُلوف، لم يبقَ في الديار إلَّا النساءُ، فيشكو لها ويتوجع، فتمسح عنهُ بعض عذابه. ويتردّد شعره بين البادية والحضر فلا يزال يعجب الناس ويحسده الشعراءُ.

ويلجُّ الشوقُ بذى الرمة يومًا، فيركب ناقته في ليلة ظلماءَ يريد أن يضيف (٣) "عاصمًا المنقرى" زوج ميّ، وهو يطمع في أن لا يعرفه فيدخله بيته، فيقريه، فيرى ميًّا، ويتزوّد من وجهها، ويكلمها. فلما نزل به فطن له عاصم وعرفهُ، فلم يدخله. وأخرج إليهِ قراه وتركه بالعراءِ، فلمحته مية تحت الليل فعرفته. وجعل ذو الرمة يتململ، فلما كان في جوف الليل تغنى غناء الركبان ببعض شعره:

أراجعة يا ميّ أيامنا التي ... "بذى الرمث" أم لا؟ ما لهن رجوعُ!

ولو لم يَشُقنى الظاعنون لشاقنى ... حمام تغنَّى في الديار وقوعُ


(١) ذُرى الأقحوان: أعاليه، وهي جمع أُقحوانة، وهي نبتة طيبة، تشبّه بها ثغور النساء.
(٢) هِجان: بيض، وكذلك مُغْرِب، أو هو الشديد البياض.
(٣) يضيف: ينزل به ضيفا.