للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تجاوبنَ فاستبكينَ من كان ذا هوى، ... نوائح ما تجرى لهن دموعُ!

دعاني الهوى من نحو ميّ، وشاقنى ... هوَى من هواها: تالد ونزيعُ (١)

إذا قلت عن طول التنائى قد ارعوى، ... أبي مُنْثَنٍ منه علىَ رجيعُ

فغضب عاصمٌ، وقام إلى امرأته وقال: قومى فصيحي به وسبيه، وقولي: أي أيام كانت لي معك "بذى الرمث"؟ فأبت ميّ وقالت لزوجها: يا سبحان الله! ضيف! ! والشاعر يقول! فانتضى عاصم سيفه وقال لها: لأضربنك به حتى آتي عليك أو تقولي! ففزعت وصاحت بذى الرمة وسبته كما أمرها زوجها. هذا صوت مى! ! ذهل ذو الرمة، فلما استقر في سمعه كلامها، نهض على راحلته فركبها. وانصرف عنها وعن ديارها مغضبًا يريد أن يصرف قلبه عنها إلى غيرها. وعاد إلى ديار قومهِ مغيظًا يتمزَّق، وأبى على نفسه ذكر مى. . . وهيهات.

وجاء قَدَرُه، فخرج في سفر في بعض أصحابه، فلما كان بفَلْج -في طريق الحاج من البصرة إلى مكة- إذا جوارٍ خارجات من بيت يردنَ آخر، وفيهنَّ جارية طويلة، حسنة، حلوة، شهلاء، بها فَوَهٌ (٢)، فنظر إليها فوقعت في عينه وفي قلبهِ المغيظ المحنق، وذكر ميًّا فأراد هذه يكيدها بها إذا تناقل الناس ما بينه وبينها، وما يقول فيها. فأخذ إداوَته (٣) فخرَّقها، ودنا من هذه الجارية يبتغى حديثها فقال: إني رجل على ظهر سفر، وقد تخرّقت إداوتى فأصلحيها. فنظرت إلى عينيه وقالت له تهزأ به: والله إني ما أحسن أعمل، وإني لخرقاءُ! (والخرقاء التي لا تعمل بيدها شيئًا لكرامتها على أهلها)، فسماها يومئذٍ خرقاء. وانطلق يشبب


(١) التالد: القديم. والنزيع: الذي ينزعه من مكانه إلى منَ أحب، يعني أن هواه أبدا متجدد.
(٢) الشهلاء: التي يخالط سواد عينها حُمرة أو زرقة، وهو ذَمٌ عندهم. الفَوَهُ: سعة الفم، وأيضًا خروج الأسنان من الشفتين وطولها.
(٣) الإداوة: وعاء يحفظ فيه الماء مثل المَزادَة.