للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بها ويذكرها في بعض شعره، يريد أن يغيظ بذلك ميّا، فرمى إليها أول ما رمى ببيت تداولته الرُّواة:

تمام الحجّ أن تقف المطايا ... على خرقاءَ واضعة اللثام

فجعلها منسكًا من مناسك الحج، لا يتم إلا به! ! ولكنه كان لا يطيق أن يدع ذكر مى فلم يقل في خرقاء إلا قصيدة أو قصيدتين، ورجع إلى ميّ.

ثارت نفس ذي الرمة ثورتها على مى، وقلق، فاضطرب في البلاد حتى أبعد، فذهب إلى أصبهان، فلم يطق أن يقيم بها فعاد إلى دياره. . . صبيّ مروَّع يتفزَّع بالليل، وغلامٌ عاشق يتزوّد بعينيه من ميّ نظرة بعد نظرة، وبين جنبيه نفس ملتاعة يحرقها الوجد في وقدة البيد تحت الشمس السافرة، ثم شابٌّ تأكل الغيرة قلبه، يثور بالليل والنهار فزعًا إلى مى، إلى المرأة التي لا سبيل لهُ عليها إلا بالوساوس والأوهام. إلى أين ومن أين؟ من البادية ... إلى الحضر ... إلى البادية ... من الديار ... إلى الأطلال، ومى تناديه في سرَ روحه فيهوى إليها كأنه شهاب تقاذفهُ الفضاء. فلم يلبث ذلك الشاب القصير، النحيف، الخفيف العارضين، أن استحال شيخًا شَخْتًا (١) دقيق العظام، قد براهُ الحب والضنى ولما يشرف على الأربعين. حتى إن أمهُ لتقول، وقد تحلق الناس عليه واجتمعوا. فأنكر -من لم يعرفهُ- دمامته، : أيها القوم اسمعوا إلى شعره، ولا تنظروا إلى وجهه! !

فلم يلبث ذو الرمة على ذلك أن اشتكى "النُّوطة" -وهي زيادة تحدث في النحر كأنها غدَّة، تَمور بين الجلد واللحم إذا حركتها- فوجع بها دهرًا حتى قال:

أَلِفْتُ كلابَ الحَى حتى عَرَفْنَنِي ... ومُدَّت نساج العنكبوت على رَحلى

فلما تماثل عزم على أن يخرج إلى الشام، إلى هشام بن عبد الملك، فقال


(١) الشخْت: الدقيق الضامِر.