للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كيف عزمت، وإني لرفيقك حيثما وجهت". وهكذا يصبح مسعود عون أخيه في هذه البأساءِ التي يتضرع لها بعد جلادة. ويرتحلان يقصدان بلاد بني منقر، فإذا الديار بلاقع ليس بها أنيس، إلَّا هذه الظباءُ وهذه المها تتهادى كأنهن العذارى يرفلنَ في بيض الجلابيب. ويعوج ذو الرُّمة على النؤى والرسوم ينظر إليها نظرة الواله المتوجس، ويدور عليها كأنهُ يستخبرها وهي تستعجم عليه لا تجيب، "والدار لو حدثته ذات أخبار". ويظلُّ ذو الرُّمة يتوهم لنفسه أوهامها في مى، ولكن لا تخطئه وسوسة الغيب بأمر ذي بال قد أصاب صاحبته، فهو يزداد التياعًا كلما ازداد ريثًا في مكانه من هذه الأطلال الخُرْس النواطق. ثم تنزو بهِ روعةٌ كأنه آبدٌ قد نشِط من قيده، وينطلق يجوب هو ومسعودٌ هذه الفيافي يسألها عن مذاهب مى في غوامضها ومنكراتها. وهكذا يبدأ هذا العاشق يتطوّح في أقدار مجهولة لا يدرى أين ينتهي به سيرُه وسُراه!

ولكن لا يلبث أن يجد في أسفاره جماعة من بنى منقر قد انفردوا عن أهلهم في أرض ينتجعونها، ويسألهم عن أخبار ميّ، فيعلم يومئذ أن قد ذهب بها عاصم المنقرى. ربّاه! لقد تهدّم البناء الشامخ من كبريائهِ على قلب حي نابضٍ محب لم يسكن ساعة عن ندَاءِ ميٍّ من وراء الأسوار المضروبة عليهِ. ألم تعلم هذه الحبيبة أن غيلان قد أخلص لها حقيقة ما في قلبه من الحب والهوى؟ ألم تدرك بعد أن حياته كانت تفيض إليها متدفقة من أغوار النفس الجياشة بالعشق والصبابة؟ أكانت هي الغريرة البلهاءَ حتى لا تجد على نفسها لواذع نظراته إليها ملتاعًا قد توقد وجده بها؟ ألم يكن في عينيه ووجهه وحديثه عهدُ المحبين إلى من أحبوا؟ وتغوَّلتِ به الأرض الفضاء فلم يجد الَّا ضلالا وحيرة في وحشة هذه الحياة المجدبة الجرداء، التي قذفت به فيها هذه الفتاة اللاهية عن جد الحب الذي لا يلهو ولا يهزل، أي غدر قد ألقى به في مُغَوَّاة (١) مظلمة قد افترشتها أفاعي الغيرة والغيظ والضغينة. فانطلقت تنهش منهُ بأنيابها، وترسل في عروقه


(١) المغَوَّاة: حُفْرَة تحتفر للأسد لصيده.