للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سلاحُه كان أعزَلَ أعضبَ (١) يؤخَذُ أخذًا كما تُؤخذ المرأة. لِيَشْغَلْ كل امرئٍ قِرْنَه، ولا يُلهينكم السوًالُ عني: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا منْ كان سائلًا عني فإني في الرَّعيل الأول". . . . ثم يدفَعُ أسدٌ في أَجَمةٍ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة (٢) في منازلهم من الرعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننت أنه لا يُقْتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رمي بحجر فأصاب وجْههُ فبلغ منه حتى دَمِىَ، وسال دَمه على لحيته، وأُرعشت يده. . . . وغشيهُ أصحابُ الحجاج من كلّ ناحية وتغاوَوا (٣)، عليه، وهو يقاتلهم جاثما أشد قتال حتى قُتِل.

وارحمتا لك يا بنتَ أبي بكر! ! أيُّ كبِدٍ هي أشد لوعة من كبدك! لقد والله رُحمتِ رحمةً إذ كف الله منك البصر، لئن لم تكوني، تحزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثلوا به وحزوا رأسهُ، ورفعوه على خشبةٍ منكسًا مصلوبًا. . . .

وما كدتُ حتى أقبلتْ أسماءُ بين يديها كفنٌ قد أَعدته ودخنته (٤)، والناسُ ينفرجون عن طريقِها في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الحزن والرعب، قد انتُسفت، وجوههم كأنما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكتت الأوصالُ، وجالت، الأحداقُ في مَحاجرها وكأنها همَّت تخرُج، وتمشي أسماء صامدة (٥) إلى الخشبة صمدًا وكأنها ترى ابنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحة دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ -وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُم ورجفت بهم قلوبُهم- وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله فقالت: "يا بني طبتَ حيًّا وميّتًا، ولا والله ما أجزعُ لِفراقك يا عبد الله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل فقد قتلتَ على حق، والله لأثْنِيَنّ عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بُني مُسلمًا محرمًا ظمآن الهواجر مصلّيًا في ليلك ونهارك".


(١) الأعضب: أصله في الحيوان، وهو المكسور القَرْن.
(٢) حاص (كسار): رَجَع، وفي حديث أَنَس يوم أُحُد "وحاص المسلمون حيصَةْ"، أي جالوا جولة يطلبون الفرار.
(٣) تَغَاوَوْا عليه: تجمّعوا عليه، وهي بالعين المهملة أيضا.
(٤) دَخن الثوبَ: جعل فيه الدُّخْنَة، وهو بُخُور تُدَخن به الثياب والبيت.
(٥) صَمَد المكانَ وإليه: قَصَدَه.